طفرة البناء في الخليج مستمرة... والمدن الذكية في الصدارة

التنويع وانخفاض التكاليف والشراكات بين القطاعين العام والخاص أساس للطفرة والمشاريع نحو 2,5 تريليون دولار

Shutterstock
Shutterstock
جزيرة الريم السياحية في أبو ظبي

طفرة البناء في الخليج مستمرة... والمدن الذكية في الصدارة

صارت الرافعات والفولاذ من أبرز علامات التحول الاقتصادي في جميع أنحاء الشرق الأوسط. فمن سواحل البحر الأحمر إلى صحاري دولة الإمارات وممرات البنية التحتية التي تربط العراق بالخليج – وهي المناطق التي طالما تأثرت بتدفقات الطاقة والتجارة – تعيد نشاطات البناء تشكيل المشهد – وهي ليست غاية في حد ذاتها، وإنما أساس للتنوع الاقتصادي على المدى الطويل.

وتأتي طفرة البناء بوصفها النتيجة المباشرة لتنفيذ الاستراتيجيات الوطنية والجهود التي تبذلها المنطقة لفصل النمو الاقتصادي عن الهيدروكربونات. وتتسابق دول الخليج لتحقيق رؤاها الوطنية الطموحة، حيث تمهد المشاريع الإنشائية الطريق أمام قطاعات مثل السياحة والتكنولوجيا والخدمات اللوجستية والتصنيع المتقدم. ووفقا لتقرير "معلومات سوق الإنشاءات العالمية 2025" الصادر عن شركة "تيرنر أند تاونسند"، فإن الزخم لا يتزايد فحسب، بل يتسارع حاليا.

ما العوامل التي تقف خلف هذه الطفرة؟

لا تحدث طفرة البناء التي تشهدها المنطقة بمعزل عما يحيط بها، بل هي ثمرة لتقاطع ثلاثة عوامل: التنويع، انخفاض تكاليف المدخلات، والشراكات بين القطاعين العام والخاص. أولا، تقوم خطط التنويع الوطنية مثل "رؤية السعودية 2030"، وخطة "مئوية الإمارات" 2071، و"رؤية عمان 2040"، بترجمة السياسات إلى بنية تحتية. وهكذا تحولت المشاريع الكبرى - التي كانت تعد طموحات في السابق - إلى حقائق ملموسة. وبدأت مشاريع التطوير مثل القدية وبوابة الدرعية في الرياض، والمنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم في عمان، وجزيرة الريم في أبوظبي بإعادة تشكيل المشهدين العمراني والاقتصادي.

من المتوقع أن تنفذ دول مجلس التعاون الخليجي مشاريع شراكة مع القطاع الخاص تبلغ قيمتها نحو 2,5 تريليون دولار بين عامي 2024 و2030، أي ما يمثل نحو 65 في المئة من مشاريع الشراكة الإجمالية المخطط لها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تبلغ قيمتها 4,1 تريليونات دولار

ثانيا، الانخفاض النسبي في تكاليف المدخلات يساهم في دعم قطاع البناء. على سبيل المثل، يبلغ متوسط التكلفة في الرياض 3,112 دولارا للمتر المربع، وذلك أقل بكثير مما هو عليه في مدن عالمية مثل لندن (5,385 دولارا للمتر المربع)، مما يساعد في استمرار الزخم في مختلف القطاعات. ويمنح هذا الانخفاض المملكة العربية السعودية ميزة تنافسية في حين تضيق تكاليف البناء العالمية المرتفعة الخناق على هوامش الربح في أماكن أخرى. فقد بلغت القيمة الإجمالية للمشاريع الإنشائية التي أرسيت في دول مجلس التعاون الخليجي 75,4 مليار دولار في عام 2024. وتتيح التكاليف التنافسية للمواد والعمالة للمطورين تنفيذ المشاريع الكبيرة بسرعة، مما يحافظ على وتيرة النمو في قطاعات الإسكان والتجارة والضيافة والبنية التحتية.

مع ذلك، شدد المسؤولون السعوديون مرارا على أهمية ضبط وتيرة تنفيذ المشاريع لتجنب النشاط الاقتصادي المفرط ورفع معدلات التضخم، وهو مصدر قلق يخضع لتدقيق متزايد في السنوات الأخيرة. ويعكس التدرج في إطلاق المشاريع استراتيجيا مدروسة لتحقيق التوازن بين الطموحات واستقرار الاقتصاد الكلي.

التواصل الحكومي
تصميم أولي لمشروع الدقم في سلطنة عمان

ثالثا، تكتسب الشراكات بين القطاعين العام والخاص زخما متزايدا في ظل سعي الحكومات لتهيئة بيئات أكثر جاذبية للمستثمرين. ومن المتوقع أن تنفذ دول مجلس التعاون الخليجي مشاريع شراكة مع القطاع الخاص تبلغ قيمتها نحو 2,5 تريليون دولار بين عامي 2024 و2030، أي ما يمثل نحو 65 في المئة من إجمالي مشاريع الشراكة المخطط لها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تبلغ قيمتها 4,1 تريليونات دولار. وتتلاقى جهود المطورين من القطاع الخاص، وصناديق الثروة السيادية، والمستثمرين الدوليين حول حقبة جديدة من البناء في الخليج، حقبة لا تقودها الدولة فحسب، بل تدفعها آليات السوق على نحو متزايد أيضا.

أين يحدث النمو في دول الخليج؟

تظهر البيانات الواردة في تقرير شركة "تيرنر أند تاونسند" أن نشاط البناء يشهد ازدهارا في كل فئات الأصول الرئيسة، ولكن مع فروقات إقليمية واضحة. فالتطوير العقاري السكني يعد من أولى الأولويات في المملكة العربية السعودية، حيث يشهد الطلب نموا ملحوظا مدعوما بارتفاع أعداد السكان من فئة الشباب وتنامي الطبقة المتوسطة. وتسعى الحكومة إلى رفع نسبة تملّك المنازل إلى 70 في المئة في عام 2030، مقارنة بـ 64 في المئة في نهاية عام 2023 – بزيادة قدرها نحو 17 في المئة عما كانت عليه في عام 2016 عند إطلاق "رؤية 2030". ولا تقتصر مشاريع الإسكان الواسعة النطاق في الرياض وجدة على تلبية هذه الحاجة فحسب، بل تعيد تشكيل التخطيط المدني وتكامل النقل.

يعد النقص في العمالة الماهرة التحدي الأكثر إلحاحا، إذ إن الطلب على المهندسين المؤهلين ومديري المشاريع والفنيين أصبح اعتبارا من عام 2025 أكبر من العرض في كل أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي

السياحة ومشاريع التطوير العقاري في قطاع الضيافة من محركات النمو في سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة. وتندرج مشاريع مثل "وان زعبيل" في دبي ومجمعات السياحة المتكاملة في عمان ضمن استراتيجيات أوسع لجذب الزوار ذوي الإنفاق المرتفع وتوفير تجارب تفاعلية تمزج بين الحداثة والتراث. ففي عام 2023، استقبلت دول مجلس التعاون الخليجي أكثر من 68 مليون سائح، وهو رقم يتوقع أن يشهد ارتفاعا حادا مع بدء تشغيل المنتجعات والمطارات والمناطق الترفيهية الجديدة، إذ تتطلع المنطقة إلى اجتذاب 129 مليون زائر في عام 2030 وزيادة حجم الإنفاق السياحي الدولي إلى 188 مليار دولار.

أصبحت البنية التحتية الرقمية أولوية متزايدة، إذ تضخ الحكومات الإقليمية استثمارات ضخمة في مراكز البيانات والمدن الذكية والخدمات السحابية. وتسعى دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية لترسيخ مكانتهما بوصفهما محورين رقميين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والعالم. وتشهد مشاريع مراكز البيانات الفائقة، بما فيها تلك التي تدعمها "أرامكو" و"مبادلة"، تقدما متسارعا لتلبية الطلب المتزايد من قطاعات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المالية والدفاع.

Shutterstock
أبراج ومباني مدينة الرياض

ويكتسب النمو الصناعي واللوجستي زخما متزايدا، لا سيما في المناطق الاقتصادية الخاصة في عمان وموانئ جبل علي وخليفة في دولة الإمارات. وتهدف هذه التطورات إلى تحويل الجغرافيا الاستراتيجية للمنطقة إلى تجارة وقدرة تصنيعية ذات قيمة مضافة، مما يجعل الخليج حلقة مركزية في سلاسل الإمداد العالمية. ومع أن المشاريع العابرة للحدود ليست جديدة، فإنها تشهد تغيرا في الحجم والتعقيد وسرعة التنفيذ.

التحديات التي تلوح في الأفق

على الرغم من هذا الزخم، تواجه طفرة البناء قيودا على القدرة الاستيعابية يمكن أن تهدد الاستدامة على المدى الطويل.

ويعد النقص في العمالة الماهرة التحدي الأكثر إلحاحا، إذ إن الطلب على المهندسين المؤهلين ومديري المشاريع والفنيين أصبح اعتبارا من عام 2025 أكبر من العرض في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي. وتدرج شركة "تيرنر أند تاونسند" هذا النقص ضمن أهم خمسة أخطار تؤثر في تسليم المشاريع. فمن دون الاستثمار في رأس المال البشري، قد تواجه المنطقة تأخيرات في التنفيذ وتجاوزات في التكاليف وتزايدا في الاعتماد على المقاولين الخارجيين.

 توافق القوانين واللوائح لا يزال متأخرا عن وتيرة التنمية المتسارعة، وتواجه المشاريع العابرة للحدود تعقيدات قانونية

إدراكا لذلك، جعلت المملكة العربية السعودية من تنمية رأس المال البشري ركيزة أساسية في استراتيجيا "رؤية 2030". لذا توجه استثمارات كبيرة نحو التعليم والتدريب المهني وتوطين القوى العاملة، ولا تقتصر على قطاع البناء فحسب، بل تشمل أيضا جميع القطاعات التي تشهد نموا مرتفعا.

وقد خصصت المملكة العربية السعودية ما يزيد على 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للتعليم العام في عام 2023 (مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يبلغ 4,4 في المئة)، كما توجه 16 في المئة من الإنفاق الحكومي الإجمالي نحو التعليم في عام 2025. وساهمت مبادرات مثل الحملة الوطنية للتدريب "وعد" في توفير أكثر من مليون فرصة تدريبية منذ عام 2023، وتستهدف الوصول إلى مليوني فرصة تدريبية في المهارات الرقمية والتقنية في نهاية عام 2025.

ويشكل توافر المواد نقطة ضاغطة أخرى. ومع أن المنطقة تستفيد من سهولة الوصول إلى المواد الرئيسة مثل الأسمنت والفولاذ والمواد الركامية، فإن اضطرابات سلسلة الإمداد العالمية وتقلب الأسعار لا تزال مصدرا للقلق، لا سيما في القطاعات المتقدمة مثل البناء المستدام والتصنيع القائم على وحدات معيارية.

.أ.ف.ب
حركة ميناء جبل علي، 18 يونيو 2020

كما أن توافق القوانين واللوائح لا يزال متأخرا عن وتيرة التنمية المتسارعة. وتواجه المشاريع العابرة للحدود تعقيدات قانونية، وعلى الرغم من تحسن أطر الشراكة بين القطاعين العام والخاص، لا يزال هناك حاجة إلى مزيد من معايير الشراء والتحكيم الشفافة والموحدة لاجتذاب مصادر رأس المال الكبيرة.

الابتكار والمهارات والاستدامة

غير أن هذه القيود ليست عقبات فحسب، وإنما عوامل محفزة للابتكار أيضا. فقد بدأت الحكومات في معالجة نقص العمالة من طريق سياسات توطين القوى العاملة والتعليم المهني. ويسعى برنامج تنمية القدرات البشرية في المملكة العربية السعودية ومبادرة الإطار الوطني العماني لمهارات المستقبل لتزويد المواطنين المهارات اللازمة للنجاح في اقتصاد البناء الحديث. وتساهم هذه الجهود أيضا في تغيير نظرة المجتمع إلى المهن الفنية والوظائف الهندسية التي أصبحت تعد اليوم مرموقة وتواكب تطلعات المستقبل.

ويحفز تحدي توافر المواد على التحول إلى ممارسات أكثر استدامة. لذا لجأ المطورون إلى اعتماد مبادئ الاقتصاد الدائري – مثل استخدام مواد ركامية أعيد تدويرها ومكونات مصنوعة بالطباعة الثلاثية الأبعاد – لتقليل النفايات وخفض كثافة إنبعاثات الكربون. وتشير شركة "تيرنر أند تاونسند" إلى تزايد الإقبال على شهادات المباني الخضراء والتصميم السلبي، لا سيما في أسواق مثل دبي والدوحة.

تحدث الرقمنة تحولا في تسليم المشاريع، فتساهم نمذجة معلومات البناء، والتوائم الرقمية، وأدوات التخطيط المدعومة بالذكاء الاصطناعي في تعزيز التنسيق، وخفض التكاليف، وزيادة الإنتاجية

في غضون ذلك، تحدث الرقمنة تحولا في تسليم المشاريع، فتساهم نمذجة معلومات البناء، والتوائم الرقمية، وأدوات التخطيط المدعومة بالذكاء الاصطناعي في تعزيز التنسيق، وخفض التكاليف، وزيادة الإنتاجية. ويعمل كثير من المشاريع الضخمة في المملكة العربية السعودية بمثابة مختبرات لهذه الابتكارات، وربما تصبح أفضل الممارسات التي يمكن تصديرها إلى المنطقة بأكملها.

ما الذي يدعو للاهتمام؟

لا يقتصر الازدهار العمراني على الخرسانة والرافعات فحسب، وإنما هو تعبير مادي أيضا عن إعادة تصور استراتيجية لاقتصادات المنطقة. لذا فإن نموذج النمو التقليدي في الخليج، القائم على صادرات النفط والتوظيف في القطاع العام، يشهد اليوم تحولا تدريجيا نحو نموذج أكثر تنوعا وتنافسية بقيادة القطاع الخاص.

Shutterstock
خرسانة وتحضيرات لبناء مشروع القدية الترفيهي، 27 ديسمبر 2024

يقع قطاع البناء في صلب هذا التحول، إذ يستحدث فرص العمل، ويجتذب الاستثمار الأجنبي، ويعزز البنية التحتية التي تحتاج إليها القطاعات الأخرى للازدهار. وبناء على ذلك، يتعين على صانعي السياسات ألا ينظروا إليه بوصفه محركا اقتصاديا فحسب، وإنما منظومة تتطلب تخطيطا متكاملا، وتنظيما مرنا، واستثمارا استشرافيا في المهارات والابتكار.

التطلع إلى أسس المستقبل

إذا تمكنت المنطقة من أن تحول النمو اليوم إلى مرونة وقدرة على الصمود في الغد، فإن إنجازها لن يقتصر على تشييد المدن، وإنما سيمتد إلى وضع الأسس لمستقبل يتسم بالتنوع والاستدامة والشمول. الأخطار عالية، لكن الفرص عظيمة بالقدر نفسه.

الرافعات المنتشرة في الرياض ومسقط ودبي لا تبني خطوط الأفق في المدن فحسب، وإنما تبني المستقبل أيضا. والرسالة واضحة أمام المستثمرين والمطورين والمواطنين على حد سواء: الآن هو وقت البناء.

font change