كيف أعادت حرب غزة تعريف مفهوم الردع في الشرق الأوسط؟

هدنة بلا نصر

رويترز
رويترز
صورة من طائرة بدون طيار تُظهر خيامًا للنازحين الفلسطينيين ومدينة مدمرة، بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من المنطقة، وسط وقف إطلاق نار بين إسرائيل وحماس في غزة، في مدينة غزة، 18 أكتوبر

كيف أعادت حرب غزة تعريف مفهوم الردع في الشرق الأوسط؟

رام الله- بعد عامين من القتال المتواصل في غزة، وضعت هدنة شرم الشيخ الموقعة في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2025، برعاية مصرية–قطرية–تركية–أميركية، حدا مؤقتا للحرب الأطول والأكثر دموية وتعقيدا في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، غير أن هذه الهدنة لم تُنتج نصرا حاسما لأي من الطرفين، بل كشفت حقيقة جديدة في معادلة القوة: لا أحد ينتصر في حرب استنزاف مفتوحة بين جيش نظامي قوي ومتفوق وحركة مقاومة غير تقليدية، وأن إسرائيل و"حماس" خرجتا من الميدان بخسائر متفاوتة، لكن مشتركة في جوهرها. إذ يمكن القول إن الطرفين يتقاسمان الخسارة، وإن تفاوتت النسب والمظاهر.

فإسرائيل، رغم تفوقها العسكري والاستخباري والتكنولوجي الهائل، فقدت ما تبقّى من ردعها الاستراتيجي أمام حركة مسلحة محاصرة، أما "حماس" ورغم الدمار الواسع الذي حلّ بقطاع غزة، فقد خرجت بصورة "المقاتل الصامد" الذي واجه الجيش الإسرائيلي لأطول فترة في تاريخ المواجهات الفلسطينية والعربية-الإسرائيلية منذ عام 1948. وهكذا، لم تكن الهدنة نهاية حرب، بل بداية مرحلة جديدة في إعادة تعريف الردع في الشرق الأوسط، مرحلة لا تُقاس فيها القوة بعدد الدبابات أو الصواريخ، بل بقدرة الأطراف على البقاء والصمود في صراع بلا منتصر.

ومنذ تأسيسها، بنت إسرائيل سياستها الأمنية على ما يُعرف بـ"عقيدة الردع"، القائمة على مبدأ أن أي تهديد لأمنها سيُواجَه بقوة ساحقة تمنع تكراره مستقبلا، لكن حرب غزة (2023–2025) نسفت هذه العقيدة من جذورها، ففي 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 انهارت أسطورة الأمن الإسرائيلي عندما نجحت "حماس" في اختراق الحدود، وتنفيذ هجوم غير مسبوق أسفر عن مقتل وأسر المئات، في أكبر فشل استخباري في تاريخ إسرائيل، ومنذ تلك اللحظة فقدت إسرائيل الركيزة الأولى لردعها القائمة على إيمان مواطنيها والإقليم بقدرتها على منع المفاجآت، وعلى مدار عامين من القتال الكثيف، لم تنجح تل أبيب في تحقيق أهدافها المعلنة؛ لا بالقضاء على "حماس"، ولا استعادة الردع، ولا استرجاع الأسرى دون أثمان سياسية وأمنية باهظة، وكانت النتيجة أن إسرائيل انتصرت عسكريا في المعارك الجزئية، لكنها انهزمت استراتيجيا في الوعي العام، داخل المنطقة وخارجها، وانهارت صورتها كقوة لا تُقهر.

كانت "حماس" هي أضعف أعداء إسرائيل قبل 7 أكتوبر، وكانت أكثرهم إشكالية خلال الحرب، وتبقى كذلك حتى هذه اللحظة

فلعقود طويلة شكّلت استراتيجية الردع العمود الفقري للأمن الإسرائيلي، حيث ارتكزت أساسا على تهديد الخصم بالعقاب وحرمانه من أي مكاسب ميدانية إلا أن التجربة مع "حماس"، عبر جولات المواجهة المتعاقبة منذ 2008 وحتى 2023، أظهرت حدودا حقيقية لهذه الاستراتيجية. ففي كل جولة من المواجهة كانت الحركة قادرة على توسيع قدراتها الصاروخية واللوجستية رغم الردود الإسرائيلية، ما دلّ بوضوح على أن تكرار الضربات وحده لم يكن كافيا لكسر إرادتها أو لردعها بشكل مستدام.

من هذا المسار نشأت لدى إسرائيل ما يمكن تسميته "هوية الردّ"؛ وهو تصور استراتيجي بأن على إسرائيل أن تُظهر دائما استعدادها للرد، حتى عندما تكون شروط الردع الفعلية ضعيفة أو غير مكتملة، وهذه الهوية شجّعت على اعتماد نموذج للردع "التراكمي" أي تراكم التهديدات والضغوط بدلا من الانخراط في عمليات برّية حاسمة بوصفه بديلا أقل كلفة من اجتياح بري موسع، لكنّ هذا النموذج أتاح لـ"حماس" ما يمكن تسميته "فخ الاستنزاف"، حيث إنه في كل مواجهة تضيف لخبرتها وقدراتها شيئا جديدا، بينما لا تُنتزع منها القدرة التنظيمية والسياسية.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يعقدان اتفاقية المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار في غزة بين إسرائيل وحماس، في شرم الشيخ، مصر، 13 أكتوبر

في المقابل، تحولت "حماس" من فصيل محاصر يُتوقع سحقه خلال أسابيع إلى فاعل إقليمي مؤثر في معادلات الأمن والسياسة. فالحركة، رغم خسائرها الفادحة، نجحت في فرض نفسها طرفا لا يمكن تجاوزه في أي تسوية. أما في الوعي الإسرائيلي، فقد باتت "حماس" تهديدا دائما لا يمكن القضاء عليه دون كلفة عالية، وهو ما دفع النخب الأمنية في تل أبيب للاعتراف الضمني بأن الردع التقليدي لم يعد صالحا، وأن "حماس" أصبحت جزءا من معادلة التوازن الإقليمي الجديدة.

"لقد كانت (حماس) هي أضعف أعداء إسرائيل قبل 7 أكتوبر، وكانت أكثرهم إشكالية خلال الحرب، وتبقى كذلك حتى هذه اللحظة، لذلك أعتقد أن إسرائيل تواجه تحديا جديدا، معقدا وطويل الأمد"، يقول جيكي خوغي المحلل الإسرائيلي المختص بالشؤون العربية لـ"المجلة".

فالهدنة التي وُقعت في العريش لم تولد من نصر، بل من الإرهاق المتبادل، فإسرائيل احتاجت مخرجا يخفف الضغط الداخلي والدبلوماسي الذي قاده الرئيس دونالد ترمب، بينما سعت "حماس" إلى تسوية تضمن بقاءها السياسي وتتيح إعادة التموضع دون الانهيار، ولذلك جاءت "التهدئة بالضرورة" اتفاقا هشا دون جدول زمني واضح أو آلية رقابة فعالة إعلانا غير مباشر عن نهاية مرحلة "الردع الصلب" وبداية عصر "الردع المرن" الذي تُدار فيه الصراعات عبر تفاهمات مؤقتة تضمن بقاء الأطراف، لا انتصار أحدها.

أدركت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن الردع لا يتحقق بالقوة وحدها، بل يحتاج إلى شرعية سياسية واستقرار داخلي

وتكشف المقارنة بين حرب غزة عام 2014 والحرب الأخيرة، مدى التحول البنيوي في عقيدة الردع الإسرائيلية؛ ففي 2014 خرجت إسرائيل بمظهر القوة المنضبطة التي حققت أهدافا محددة وانسحبت بخطة مدروسة، أما اليوم، فقد بدت دولة مرتبكة بلا استراتيجية خروج، غارقة في حرب استنزاف طويلة، بينما تحولت "حماس" من تنظيم مقاوم محدود التأثير إلى قوة إقليمية صلبة أكثر تماسكا وتنظيما قادرة على الصمود لعامين أمام جيش متفوق.

وبينما اقتصرت حرب 2014 على 51 يوما داخل غزة، امتدت الحرب الأخيرة إلى لبنان وسوريا والبحر الأحمر، وتضاعفت الخسائر البشرية والمادية إلى مستويات غير مسبوقة، فيما تراجع الردع الإسرائيلي بنيويا، ليس بسبب ضعف القوة العسكرية، بل نتيجة فقدان القدرة على تحويل التفوق العسكري الإسرائيلي إلى إنجاز سياسي واضح.

أ ف ب
رجل فلسطيني مسلح يراقب حفارة تُستخدم للحفر عميقًا في الأرض، بحثًا عن جثث في خان يونس جنوب قطاع غزة، 17 أكتوبر

فقد أدركت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن الردع لا يتحقق بالقوة وحدها، بل يحتاج إلى شرعية سياسية واستقرار داخلي، فاستطلاعات الرأي أظهرت أن 60 في المئة من الإسرائيليين فقدوا الثقة بجيشهم، وتراجعت صورة "الجيش الذي لا يُقهر"، بينما غرقت حكومة نتنياهو في أسوأ أزمة داخلية في تاريخها، وأصبحت رمزا للفشل الأمني والانقسام السياسي الذي أضعف القرار الاستراتيجي وأفقد الردع ركيزته السياسية، ورغم الدعم الأميركي غير المحدود، باتت قوة إسرائيل الردعية مرتهنة بتحالفها مع واشنطن أكثر من اعتمادها على قدراتها الذاتية.

"غزة ولبنان وسوريا لن تجلب الأمن لإسرائيل بفضل الأحزمة الدفاعية العسكرية فقط، الحملة العسكرية كانت خطوة ضرورية، ولكن أولية وإذا كانت إسرائيل تريد الأمن، فعليها الآن بناء واقع سياسي، اقتصادي ثقافي واجتماعي مع جيراننا، بمعنى أن إسرائيل بحاجة لتعلم لغة حسن الجوار"، يقول خوغي لـ"المجلة". ويضيف: "هذا مشروع أثبتت إسرائيل على مر السنين أنها ليست جيدة فيه. على عكس دول المنطقة الأخرى، مثل مصر والسعودية والأردن أيضا، فالدبلوماسية الإسرائيلية ليست صاحبة مبادرات سياسية ثابتة، بل إنها غالبا دبلوماسية تقوم على مدافع الأسطول، كما كان يطلق عليها في العصر الاستعماري".

خرجت "حماس" من الحرب مثخنة بالجراح، وفقدت جزءا كبيرا من بنيتها التحتية العسكرية والإدارية، وعانت من انهيار واسع في قطاع غزة، لكنها من وجهة نظرها لم تُهزم

لقد أعادت نتائج الحرب تعريف مفهوم الردع في الشرق الأوسط كله، فلم يعد الردع يعني منع الحرب، بل إدارة تكلفتها، ولم تعد القوة تُقاس بالسلاح فقط، بل بالإعلام والاقتصاد والرأي العام، وقد خسرت إسرائيل معركة الصورة رغم تفوقها الميداني، بينما ربحت "حماس" التعاطف الشعبي رغم خسائرها المادية، وأصبح الردع اليوم شبكة متداخلة من الفاعلين، من الدول والحركات والميليشيات، كل منها يملك القدرة على التعطيل دون السيطرة الكاملة، ووسط هذا التشابك، جاءت هدنة العريش لتكرّس ما يمكن تسميته "عصر الردع المتبادل"، حيث يدرك كل طرف حدود قوته وحدود مغامرته، فإسرائيل تعلم أن أي هجوم شامل على غزة سيعزلها دبلوماسيا ويكلفها اقتصاديا ويضر بصورتها دوليا، و"حماس" تدرك أن أي تصعيد جديد قد يؤدي إلى كارثة إنسانية وتهجير أوسع في غزة وهذه معادلة توازن الخسارة لا توازن الردع، فالجميع خاسر جزئيا، لكن لا أحد قادر على الانتصار الكامل.

رويترز
جندي إسرائيلي يقف بجوار ناقلة جند مدرعة، وسط وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في غزة، على الحدود بين إسرائيل وغزة في جنوب إسرائيل 12 أكتوبر

"لقد علّمتنا هذه الحرب درس التواضع وأهمية الشك لكننا في ضوء الدروس القاسية المستخلصة ندرك تماما أن الأحداث تتبدل بسرعة، وأن أي محاولة لصياغة سياسة ردع طويلة المدى تنطوي دائما على خطر الغرور أو الخطأ في التقدير"، يقول اللواء (احتياط) تمير هايمان رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق.

وتدرك إسرائيل أن استعادة هيبتها لن تتم دون إصلاح جذري في استراتيجيتها الأمنية، وأن أمامها ثلاث مسارات محتملة هي الردع عبر التحالفات بتعميق التعاون الأمني مع مصر لمكافحة تهريب السلاح إلى غزة، والردع الاقتصادي التنموي عبر ربط إعادة إعمار غزة بمبدأ "الهدوء مقابل التنمية"، والردع المعنوي الداخلي بإعادة ثقة المجتمع الإسرائيلي بجيشه ومؤسساته بعد صدمة أكتوبر.

لكن حتى لو نجحت تل أبيب في هذه المسارات، فلن يعود الردع إلى ما كان عليه، لأن الردع القائم على الخوف انتهى، وحلّ مكانه ردع قائم على الإدراك المتبادل لحدود القوة.

أما "حماس" فخرجت من الحرب مثخنة بالجراح، وفقدت جزءا كبيرا من بنيتها التحتية العسكرية والإدارية، وعانت من انهيار واسع في قطاع غزة، لكنها من وجهة نظرها لم تُهزم، فالحركات الأيديولوجية لا تقيس النصر بالمعايير الميدانية وحدها، فبالنسبة لها يكفي البقاء للاستمرار في رواية "الانتصار"، حتى ولو كان البقاء رمزيا أو جزئيا. وكما قال أحد الخبراء العسكريين لـ"المجلة"، إن "حماس" ستعتبر "مجرد بقائها وبقاء قياداتها انتصارا بحد ذاته، يبشّر بإمكانية عودتها إلى المشهد في وقت لاحق"، حيث إنها حركة تعمل تحت الأرض، لا جيش نظامي يمكن ردعه وفق المفاهيم التقليدية، فلا قواعد عسكرية ثابتة، ولا هرم قيادة معلنا، ما يجعل استهدافها عسكريا أو ردعها سياسيا عملية معقدة.

تكشف هدنة العريش عن تحول عميق في فلسفة الصراع بالشرق الأوسط. إذ إن الردع لم يعد يُقاس بالذخيرة ولا بحجم الدمار، بل بقدرة الأطراف على البقاء دون الانهيار

وفي المقابل، فإن معادلة الردع بين الجانبين شهدت تحوّلا لافتا، ففي الوقت الذي وقّعت فيه إسرائيل اتفاق تهدئة مع "حزب الله" في الشمال، تواصل قصف أهدافه متى وأينما شاءت دون رد، بينما لا تمارس هذا النمط من الردع حاليا ضد "حماس" في هذه المرحلة على الأقل، حيث تبدو "حماس" اليوم في وضع مختلف، إذ ما زالت تحتفظ بقدرة نارية محدودة لكنها فاعلة، وبحضور ميداني وتنظيمي يحول دون تعامل إسرائيل معها كخصم منتهي الصلاحية، الأمر الذي يمنح الحركة موقعا أكثر توازنا ولو مؤقتا في معادلة القوة، لكن المشهد قد يتغيّر بعد استكمال المرحلة الثانية من الهدنة، إذ إن خروج "حماس" من الحكم في غزة إن تحقق قد يمنحها فرصة ادعاء "الانتصار الأخلاقي" من باب أن الحركات العقائدية تعتبر مجرد استمرارها بعد حرب مدمّرة انتصارا بحد ذاته، كما فعل الأمين العام السابق لـ"حزب الله" حسن نصرالله بعد حرب لبنان عام 2006، عندما اعتبر أن "الصمود بوجه إسرائيل هو نصر إلهي".

وفي المحصلة، ما جرى في غزة ليس نصرا "إلهيا" ولا هزيمة، بل تقاسمٌ للخسارة، كما أن معادلة "من خسر أقل هو المنتصر" قد تكون الوصف الأدق للواقع الحالي، فإسرائيل، رغم قوتها الهائلة، فشلت في فرض إرادتها السياسية على الأرض، بينما "حماس"، رغم ضعفها، نجحت في البقاء كفاعل حاضر في المعادلة الإقليمية.

تكشف هدنة العريش عن تحول عميق في فلسفة الصراع بالشرق الأوسط. إذ إن الردع لم يعد يُقاس بالذخيرة ولا بحجم الدمار، بل بقدرة الأطراف على البقاء دون الانهيار، فإسرائيل التي اعتادت فرض الإيقاع على خصومها تجد نفسها اليوم محكومة بإيقاعهم، و"حماس" التي كانت تقاتل من أجل البقاء أصبحت تقاتل لتثبيت موقعها في ميزان القوى الإقليمي، والمنطقة بأكملها تدخل الآن عصر الردع بالتعب حيث الجميع منهك، والجميع يحاول تجنّب الحرب المقبلة دون امتلاك شجاعة السلام، وبين هذين الحدّين، يقف المدنيون الفلسطينيون في غزة كأكبر الخاسرين في حربٍ لم تغيّر فقط جغرافيا الصراع، بل أعادت تعريف معنى النصر والخسارة ومفهوم الردع نفسه في الشرق الأوسط، حيث يمكن القول إن ما فعله الجيش الإسرائيلي حتى الآن هو استعادة مظهر الردع وليس إعادة بنائه عمليا عبر مزيج من الوسائل التي توازن بين القوة العسكرية والحلول السياسية.

font change

مقالات ذات صلة