صراع "الحوثيين" مع منظمات الإغاثة الدولية

ما المعقول واللامعقول؟

رويترز
رويترز
فتاة يمنية نازحة في مخيم للنازحين في مأرب، اليمن، 28 أكتوبر 2024

صراع "الحوثيين" مع منظمات الإغاثة الدولية

بالتزامن مع إعلان جماعة "الحوثيين" في اليمن عن مقتل من وصفته بـ"المجاهد الكبير" رئيس أركان القوات التابعة لها، محمد عبدالكريم الغماري، أطل زعيم الجماعة، عبدالملك الحوثي، بخطاب ناري كال فيه اتهامات خطيرة، علنية وغير مسبوقة لمن سماها "خلية تابعة لبرنامج الغذاء العالمي"، وذلك في "رصد اجتماع للحكومة، والإسراع بإبلاغ العدو الإسرائيلي به"، حيث شنت إسرائيل على الفور كما تشير تصريحات الحوثي، سلسلة غارات مكثفة على صنعاء استهدفت إحداها اجتماعا لحكومة الجماعة (غير المعترف بها) وأسفرت عن مقتل رئيس الحكومة ونحو عشرة من وزرائه بالإضافة إلى قادة آخرين، كان من بينهم الغماري الذي طالما وصف بأنه عسكري محترف وعقائدي متطرف يقف على رأس الجهاز العسكري للجماعة وخلف الهجمات الصاروخية التي أطلقها الحوثيون على إسرائيل وأخطر "الاعتداءات" التي انتهك بها الحوثيون حرية وسلامة الملاحة التجارية في كل من البحر الأحمر وخليج عدن.

ربما كانت هذه هي المرة الأولى غير المعتادة التي يتولى فيها زعيم الجماعة بنفسه، في خطاب متلفز، توجيه الاتهام بالتخابر لإحدى أهم منظمات الإغاثة الدولية التي يحتاج إليها اليمنيون، خصوصا في مناطق سيطرة جماعته.

أكد الحوثي أن الأجهزة الأمنية التابعة لجماعته وضعت يدها على "معلومات قاطعة عن ذلك (الدور التجسسي العدواني الإجرامي) للخلايا التي تم اعتقالها"، وكان لها "الدور الأساسي في الاستهداف الإسرائيلي لاجتماع الحكومة، ومقتل رئيسها ورفاقه، كما قال.

أبعد من ذلك، ادعاء الحوثي حيازته أدلة تبرهن على إمداد تلك "المنظمات بأجهزة وإمكانات تجسسية تستخدم عادة لدى أجهزة الاستخبارات العالمية" وفق ما جاء حرفيا على لسانه.

تحد حوثي نوعي

وبعد يومين فقط من الخطاب "التعبوي" لزعيم الجماعة ضد منظمات الإغاثة الإنسانية داهمت قوات تابعة لما يسمى جهاز الأمن والمخابرات الحوثي، المجمع السكني التابع للأمم المتحدة في شارع حدة بالعاصمة صنعاء، مستخدمة عربات مدرعة وعددا من المركبات المسلحة، وذلك بعد أن كانت قد ضربت طوقا أمنيا على الموقع باستخدام قوات إضافية.

وبحسب مصادر إعلامية فإن عناصر الميليشيا انتشرت داخل مباني المجمع بعد اقتحامه، حيث قطعت التيار الكهربائي وأوقفت أنظمة المراقبة، كما عطلت خدمات الاتصالات والإنترنت في محاولة لعزل المكان بالكامل.

وأفادت تلك المصادر بأن نحو 15 موظفا دوليا من جنسيات مختلفة كانوا موجودين داخل المجمع، إلى جانب عدد من العاملين اليمنيين في المجالات اللوجستية والأمنية.

وخلال عملية الاقتحام، أجبر المسلحون الحوثيون الموظفين الأجانب على مغادرة مكاتبهم ومساكنهم والتجمع في فناء أحد المباني، بينما احتجزوا الموظفين المحليين في الطابق تحت الأرضي للمجمع.

وأفادت تقارير متطابقة بأن "عناصر الميليشيا نفذت تفتيشا دقيقا لجميع المباني، وصادرت معدات وأجهزة متنوعة، من بينها أنظمة تسجيل كاميرات المراقبة والسيرفرات والأقراص الصلبة وأجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة، إضافة إلى عدد من الوثائق الخاصة بالمكاتب"، وفق تلك المصادر، التي أضافت أنه لم يسمح سوى للموظفين الأجانب فقط بالتواصل مع عائلاتهم، فيما يخضع الموظفون اليمنيون لتحقيقات أمنية مطولة.

سريعا جاء رد المنظمة الدولية عبر بيان للمتحدث باسم أمينها العام، ستيفان دوجاريك، اعتبر فيه أن "هذه الاتهامات خطيرة، وغير مقبولة وتُعرّض سلامة موظفي الأمم المتحدة والعاملين في المجال الإنساني لخطر جسيم

سريعا جاء رد المنظمة الدولية عبر بيان للمتحدث باسم أمينها العام، ستيفان دوجاريك، اعتبر فيه أن "هذه الاتهامات خطيرة، وغير مقبولة وتُعرض سلامة موظفي الأمم المتحدة والعاملين في المجال الإنساني لخطر جسيم، كما تُقوض عمليات إنقاذ الأرواح".

أضاف دوجاريك نقلا عن الأمين العام للمنظمة الدولية، أنطونيو غوتيريش، أن موظفي الأمم المتحدة والعاملين في المجال الإنساني "يخاطرون بحياتهم يوميا من أجل تقديم الدعم للمجتمعات التي هي بأمس الحاجة إلى المساعدة الإنسانية، مع التزامهم بمبادئ الإنسانية، والحياد، والاستقلال، والنزاهة".

أ.ف.ب
نازحون يمنيون يصطفون للحصول على أكياس من المواد الغذائية في محافظة الحديدة الغربية في 4 مايو 2025

وكثيرا ما كررت الأمم المتحدة مطالباتها للحوثيين بضرورة الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع موظفي الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني البالغ عددهم نحو 53 ممن تعرضوا للاحتجاز التعسفي، وبعضهم محتجز دون أي اتصال لسنوات عديدة، وتحديدا منذ عام 2021، كما جددت الأمم المتحدة دعوتها الحوثيين إلى "إخلاء مقار الأمم المتحدة" وهو الأمر الذي دأبت جماعة الحوثيين على تجاهله وعدم الاكتراث بتلك المناشدات ومن بينها استغاثات عدد من عائلات الموظفين الدوليين والمدنيين المعتقلين.

 آثار ذلك على الوضع الإنساني

حذر عاملون في مجال المساعدات الإغاثية ومسؤولون باليمن من انعكاسات اتهامات الحوثيين لمنظمات الأمم المتحدة على مستقبل العمل الإنساني في البلاد، ما ينذر بعزل اليمن أكثر عن المجتمع الدولي"، ونقلت وكالة "رويترز" عن رئيس منظمة إغاثية محلية في العاصمة صنعاء طلب عدم الكشف عن هويته لدواع أمنية، أن اتهامات الحوثي قد تتسبب في وقف مزيد من المشاريع التنموية بعد توقف عشرات منها منذ مطلع العام الحالي بسبب نقص التمويل وإيقاف المساعدات الأميركية وتراجع الدعم الدولي.

يذكر أن اليمن يعد مركزا لإحدى أكبر العمليات الإنسانية في العالم منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عشرة أعوام. وحذرت منظمات إغاثة دولية ومحلية من احتمال تفاقم أزمة الجوع في اليمن العام المقبل 2026 مع استمرار النقص الحاد في التمويل خلال العام الجاري، وهذا ما يهدد بوقوع ملايين اليمنيين في أنحاء البلاد في مستويات حادة من الفقر والجوع.

أ.ف.ب
نازحون يمنيون يصطفون للحصول على أكياس من المواد الغذائية في محافظة الحديدة في 4 مايو 2025

لم تكن خفية أو صامتة هذه المواجهة بين جماعة الحوثيين ومنظمات الإغاثة الدولية التابعة للأمم المتحدة أو غيرها، فمنذ أول يوم على انقلابها على الدولة اليمنية واستيلائها على السلطة في العاصمة صنعاء تركز اهتمام الجماعة على الإسراع في تطوير كل ما له علاقة مع إيران واستقدام كل أشكال الدعم منها بواسطة 28 رحلة جوية، أسبوعيا، بين صنعاء وطهران، بينما جرى تدريجيا استبعاد كل أنواع التعامل مع الإقليم والغرب بما في ذلك برامجه ومشاريعه الإنمائية والإغاثية التي كانت قائمة أصلا، فضلا عن اقتحام سفاراته وقنصلياته والاستحواذ عليها، وربما نقل سجلاتها وأرشيفها إلى جهات غير معلومة خارج البلاد، وفق ما ذكره لي أحد الثقاة ممن كانوا مقربين من الجماعة.

أزمات متكررة مع الأمم المتحدة

ومع تفجر الصراع المسلح في اليمن أواخر شهر مارس/آذار 2015، واندلاع ما اعتبرتها الأمم المتحدة "أكبر أزمة إنسانية في العالم"، سارعت المنظمة الدولية إلى حشد أكبر عدد ممكن من الأموال والمساعدات العينية كالغذاء والدواء ومحطات المياه، وأقامت العشرات من المخيمات في محافظات عدة لإيواء النازحين الذي فروا من سعير الحرب في مناطقهم، وبالمقابل نظر الحوثيون إلى الاهتمام الدولي لبرامج الاستجابة الإنسانية بعين الريبة والشك، وكشفت تقارير دولية عن سلسلة عوائق ومضايقات لبرامج المساعدات وملاحقات للعاملين الإنسانيين العاملين عليها، ما حدا ببعض وكالات الإغاثة إلى تعليق أنشطتها ومغادرة اليمن، ووصل الأمر حد اقتحام ونهب مستودعات برنامج الغذاء العالمي، بحسب بيانات البرنامج ومع خلو البلاد من العاملين الإنسانيين العرب والأجانب، بدأت جماعة الحوثيين مند عام 2021 في استهداف الموظفين اليمنيين الذين حلوا مكانهم، وبعض هؤلاء تم فرضهم من قبل الجماعة نفسها.

بعد يومين فقط من الخطاب "التعبوي" لزعيم الجماعة ضد منظمات الإغاثة الإنسانية داهمت قوات تابعة لما يسمى جهاز الأمن والمخابرات الحوثي، المجمع السكني التابع للأمم المتحدة

في التحليل النهائي لا بد من توقع أن يكون بعض المنظمات الدولية قد تعرض للاختراق وربما لتجنيد بعض موظفيها، دون علمها، لصالح هذه الجهة الاستخبارية أو تلك، لكن المفترض في مثل هكذا حالة أن يسود التعاون بين الجهة المتضررة من الاختراق والأخرى التي ينتسب إليها المجند بهدف التحقق بشكل مهني ومستقل من صحة الاتهامات والأدلة القائمة عليها، ففي واقع الحرب لا يُستبعد أن يكون هناك متعاونون حتى من داخل الجهة المستهدفة نفسها، وقد رأينا أمثلة على ذلك تقترب من الخيال في اختراق الموساد الإسرائيلي لـ"حزب الله" اللبناني ولـ"الحرس الثوري" الإيراني، ولكن أن يصل الأمر بالجهة التي تعرضت للاستهداف إلى درجة العداء والقطيعة وسوء الظن فذلك أمر غير مقبول، خصوصا في العلاقة بين منظمة إغاثة دولية وبلد يفترض أنه في أمسّ الحاجة إلى مساعدتها، سيما إذا تم الزج بأبرياء في أقبية السجون وانتزاع اعترافات منهم تحت التعذيب وإفادات بالإكراه، وذلك لمجرد إيهام الرأي العام بأنهم قاموا بما يتعين علينا لكشف وضبط الوسيلة، وترك الرد على الفاعل دون فعل.

font change