لبنان... طبول الحرب وتفعيل "المظلة العربية"

"حزب الله" نفسه أصبحت تتشكل لديه سياسة عربية جديدة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس اللبناني جوزيف عون يستقبل المبعوثة الأميركية إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس في القصر الرئاسي في بعبدا، شرق بيروت، في 28 أكتوبر 2025

لبنان... طبول الحرب وتفعيل "المظلة العربية"

لم تضئ التطورات الأخيرة في لبنان بين التصعيد الإسرائيلي المتمادي وحركة الموفدين عربا وأميركيين والإرباك السياسي الداخلي، على المشكلة الأمنية التي يواجهها لبنان وحسب بل أعادت تظهير المشكلة السياسية التي يقبع فيها البلد منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وتتمثل هذه المشكلة بالدرجة الأولى في أن لبنان كان طيلة الفترة الماضية من دون مظلة خارجية حقيقية، وبالتحديد عربية، بالتزامن مع استفحال الأزمة الداخلية على وقع الانقسام حول مستقبل سلاح "حزب الله"، في وقت كانت إسرائيل تواصل استباحتها للسيادة اللبنانية المنتهكة أصلا من الداخل والخارج.

صحيح أن هذه المشكلة ليست وليدة اللحظة لكنها مع التحديات الجديدة، خصوصا بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، أصبحت أكثر وضوحا وأكثر خطرا وأكثر دلالة على الاختلال العميق في الواقع اللبناني، على اعتبار أن الهجمات الإسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية أصبحت يوما بعد يوم ضد الدولة اللبنانية نفسها وليست ضد "حزب الله" وحسب.

ولعلّ بداية تصحيح هذا الاختلال القائم هي في وعي هذه المسألة، أي في عدم إمكان الاستمرار في الفصل بين الهجمات الإسرائيلية ضد أهداف لـ"حزب الله" وبين المسارات السياسية والدبلوماسية للدولة اللبنانية. وهذا يحيلنا إلى المشكلة الرئيسة والأعمق والقائمة أساسا في الفصل الذي يقيمه "حزب الله" بينه وبين الدولة، وبالتحديد بينه وبين السلطة الجديدة، وكأنهما في واقعين منفصلين بينما هما في واقع واحد وفي مأزق واحد.

وهذه حالة لبنانية تكاد تكون فريدة، بحيث إن الانقسام السياسي يعطل السياسة الخارجية للدولة، فتنحصر مهامها في إجراءات بروتوكولية وبعض المواقف، بينما طبيعة التحديات تقتضي تفعيل الدبلوماسية اللبنانية، خصوصا بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، لكي لا يظل لبنان كما كان طيلة الأشهر الماضية من دون أي غطاء خارجي وبالأخص عربي، تحت حجة الموقف من سلاح "حزب الله".

لم تكن الدول العربية تبادر تجاه لبنان بالنظر لموقفها من "حزب الله"، خصوصا أن فشل مساعي الحكومة لحل مسألة سلاحه، حصر الموقف الخارجي من لبنان بهذه المسألة وحسب

وهنا لا بد من المقارنة مع الحالة السورية، فإذا كانت سوريا تتعرض لتوغلات وهجمات إسرائيلية (تراجعت وتيرتها أخيرا) فإن هذه الاعتداءات الإسرائيلية لم تكن طيلة الفترة الماضية تمر من دون إدانات عربية بخلاف الحال في لبنان، حيث كانت تتواصل الاعتداءات الإسرائيلية وسط شبه تجاهل عربي وحتى إقليمي حيالها، فإيران نفسها لم تكن تدين هذه الاعتداءات بالوتيرة التي يمليها عليها دعمها لـ"حزب الله".

هذا عائد في جزء منه إلى الموقف العربي من "حزب الله"، بعد سنوات من السياسات الهجومية التي كان ينتهجها "الحزب" ضد الدول العربية، ولكن ذلك لا يفسر لوحده بقاء لبنان منكشفا أمام الهجمات الإسرائيلية طيلة هذه المدة، وإن كان الانخراط العربي في غزة لم يكن يبلغ الحد الذي بلغه مع التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، بحيث جعل هذا الاتفاق العرب، قبل الأميركيين، معنيين بتثبيت وقف إطلاق النار، بعدما بلغ التمادي الإسرائيلي حدا بدأ يهدد الدول العربية إثر الهجوم الإسرائيلي على الدوحة.

أ.ب
عناصر من الجيش اللبناني يحملون زميلاً لهم قتل أثناء الكشف على منشأة لـ"حزب الله" في الجنوب، خلال مراسم تشييع في المستشفى العسكري اللبناني في بيروت، لبنان، 10 آب 2025

بالتالي فإن لبنان كان خلال الأشهر الماضية يواجه مشكلة متعددة الطبقات، فمن ناحية هناك استمرار الاعتداءات الإسرائيلية بالتزامن مع ضغوط وتهديدات أميركية للتسريع بنزع سلاح "حزب الله"، ومن ناحية ثانية كان "حزب الله" يتشدد وبدفع إيراني في التمسك بسلاحه الذي ترتاب منه الدول العربية، وبين هذا وذاك تقف السلطة اللبنانية الجديدة مرتبكة وحائرة حتى كادت تغرق في تفاصيل التجاذب بين رئاستي الجمهورية والحكومة في وقت أن كلتيهما مهددة بالفشل في ظل الوضع القائم.

الموقف العربي

وعلى هذه الحال لم تكن الدول العربية تبادر تجاه لبنان بالنظر لموقفها من "حزب الله"، خصوصا أن فشل مساعي الحكومة لحل مسألة سلاحه، حصر الموقف الخارجي من لبنان بهذه المسألة وحسب. وفي المقابل فإن السلطة اللبنانية كانت عاجزة عن المبادرة باتجاه تأمين مظلة خارجية وتحديدا عربية للبنان في ظل صراعها مع "حزب الله" حول سلاحه، أي إنها لم تستطع الفصل بين مسألة السلاح والهجمات الإسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية، وهو ما أدام شلل الدبلوماسية اللبنانية في لحظة كانت فيها الدبلوماسية العربية والإقليمية في عز نشاطها، ومن ذلك بالكاد رأينا وزير الخارجية اللبنانية يزور دولة عربية أو إقليمية أو دولية حاملا مبادرة أو فكرة لاحتواء المأزق اللبناني المتمادي.

أزمة السياسة الخارجية اللبنانية ليست متأتية من الانقسام السياسي في الدولة وحسب بل من أن "حزب الله" نفسه لا يريد سياسة خارجية مستقلة للدولة بل يريدها تابعة له

وفي المقابل أيضا فإن "حزب الله" نفسه كان مرتاحا للوضع القائم أو إنه لا يريد أن يفقد السيطرة عليه، بحيث إن أي تحرك للدبلوماسية اللبنانية خارج إملاءاته كما كان يحصل طيلة سنوات هيمنته على الدولة، يدخل في دائرة شكوكه وريبته، وهذه مشكلة ستبقى بلا حل، وسيبقى لبنان بالتالي معلقا بين الدولة واللادولة. ولكن في ما يخص اللحظة الراهنة فإن كل الاختلال الحاصل لا يحصل بغفلة من "حزب الله"، حتى إن تحميل "الحزب" للدولة مسؤولية معالجة تداعيات الحرب والهجمات الإسرائيلية المتواصلة هو سلوك لا يمكن وصفه إلا بالانتهازي، لأن "حزب الله" يدرك أن الدولة في ظل الواقع الحالي عاجزة عن إيجاد معالجات جذرية للأزمة، لكن ما يهم "الحزب" بالدرجة الأولى أن يكون هو وليس أحدا سواه من يمسك بملف المفاوضات مع الأميركيين وبطريقة غير مباشرة مع الإسرائيليين عبر رئيس البرلمان نبيه بري أو عبر ممثلي "الحزب" أنفسهم، وهنا بيت القصيد.

أ.ف.ب
شخص يحمل لافتة كُتب عليها "لن نترك السلاح" خلال إحياء حزب الله مراسم عاشوراء، في الضاحية الجنوبية لبيروت، في 6 يوليو

بالتالي فإن أزمة السياسة الخارجية اللبنانية ليست متأتية من الانقسام السياسي في الدولة وحسب بل من أن "حزب الله" نفسه لا يريد سياسة خارجية مستقلة للدولة بل يريدها تابعة له، وحتى لو كانت تحت هيمنته فهو لا يقبل أن تفاوض نيابة عنه خصوصا إذا كان وزير الخارجية من خارج صفوفه. وهذا يحيلنا إلى تفاصيل الأزمة حول سلاح "حزب الله" بحيث أصبحت مرتبطة بمستقبل النظام السياسي أكثر مما هي مرتبطة بمستقبل الصراع مع إسرائيل، على اعتبار أن الأمين العام لـ"الحزب" قال أخيرا إن دور "الحزب" أصبح دفاعيا وأنه ليس في وارد شن حرب ضد إسرائيل، وهذا اعتراف غير مباشر بسقوط الوظيفة الردعية للسلاح.

"حزب الله" نفسه أصبحت تتشكل لديه سياسة عربية جديدة دلت عليها دعوة أمينه العام الشيخ نعيم قاسم لفتح صفحة جديدة مع السعودية

المشهد الجديد

والحال أن المشهد الإقليمي الجديد الذي فرضه وقف إطلاق النار في غزة يملي قراءة جديدة للمشهد اللبناني ولموقف "حزب الله". والمسألة هنا لا تتعلق باحتمالات تجدد الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" بقدر ما تتعلق بكيفية المواكبة السياسية للمرحلة الجديدة لبنانيا وعربيا. وإذا كانت زيارة الموفدين الأميركيين من توماس باراك إلى مورغان أورتاغوس أصبحت شبه اعتيادية، فإن الأهم الآن هو بداية الالتفاتة العربية تجاه لبنان بدءا بزيارة رئيس المخابرات المصرية، اللواء حسن رشاد، بيروت والتي تكاد تكون استثنائية في سجل الزيارات المصرية إلى لبنان. فالرسائل المحدثة التي سينقلها الموفدون الأميركيون بدءا من أورتاغوس التي تزور بيروت حاليا وصولا إلى باراك الذي يتوقع أن يزور لبنان خلال الأيام المقبلة قبل استلام السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى مهامه في العاشر من الشهر المقبل، ما عاد يمكن قراءتها خارج الانخراط العربي في الملف اللبناني.

فهذا الانخراط العربي من البوابة المصرية، يعكس تبدلا في التعامل العربي مع الملف اللبناني، على قاعدة أن الموقف من سلاح "حزب الله" لم يعد حائلا دون التدخل لوضع لبنان تحت المظلة العربية التي تبلورت مع وقف إطلاق النار في غزة، أي إن الوضع اللبناني دخل في قائمة الشروط المتبادلة والتنازلات المتبادلة بين الدول العربية وواشنطن لتثبيت "خطة العشرين" الأميركية، وهذا هو المحك الأساسي الذي من خلاله يمكن فهم الديناميكية العربية الجديدة تجاه لبنان، على اعتبار أن الموقف العربي إزاء تماديات الحكومة اليمينية الإسرائيلية في المنطقة لا يمكن أن يجزأ ولا يمكن أن يكون محكوما بمعايير مختلفة تبعا لكل بلد، سواء فلسطين أو سوريا أو لبنان أو اليمن أو قطر، وإلا فإن وقف إطلاق النار في غزة الذي جاء أيضا لأسباب إقليمية وليست فلسطينية وحسب سيظل هشا من حيث الدعم العربي له.

رويترز
سيدتان نازحتان تحمل إحداهما علم "حزب الله"، في جنوب لبنان، 18 فبراير 2025

لكن هنا أيضا يفترض الأخذ في الاعتبار أن "حزب الله" نفسه أصبحت تتشكل لديه سياسة عربية جديدة دلت عليها دعوة أمينه العام الشيخ نعيم قاسم لفتح صفحة جديدة مع السعودية في 19 سبتمبر/أيلول الماضي. ومن الواضح أن "حزب الله" هنا أيضا يريد أن يفاوض لنفسه وبنفسه، بحيث إن المبادرة باتجاه الرياض لا يمكن فهمها خارج تموضعات "الحزب" السياسية إزاء المشهد السياسي الداخلي وإزاء النظام اللبناني نفسه. وفي السياق كانت لافتة الزيارة التي قام بها السفير السعودي وليد البخاري إلى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في 23 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، في خطوة من الصعب عزلها عن دعوة "الحزب" المذكورة، خصوصا أن رئيس المجلس الشيخ أحمد الخطيب أعلن التمسك بـ"اتفاق الطائف" في إشارة إلى أن مسألة النظام السياسي مطروحة دائما، والآن أكثر من أي وقت مضى مع وضع ملف سلاح "حزب الله" على الطاولة، بحيث إن آفاق البحث بمستقبل هذا السلاح باتت ترتبط بآفاق البحث بمستقبل النظام اللبناني، أو أقله بالحصص السياسية داخل هذا النظام.

إذا كان "حزب الله" في موقع ضعف فإن نتنياهو ليس في موقع قوة قصوى كما كان قبل توقيع وقف إطلاق النار، فهو مقيد بقيود أميركية، وبقيود عربية أيضا

حرب.. لا حرب؟

كل هذه المعطيات لا يمكن عزلها عن التوقعات المحتدمة بخصوص إمكان شن إسرائيل حربا جديدة ضد "حزب الله"، بعد وقف إطلاق النار في غزة، في وقت أن الجيش الإسرائيلي بدأ منذ الخميس الماضي في توسيع عملياته العسكرية داخل لبنان، بحيث اغتال 12 شخصا بينهم قياديان في "حزب الله". فالمسار السياسي الذي افتتحته زيارة رئيس المخابرات المصرية إلى لبنان يوازي في أهميته بل يفوق الآن أهمية المسار الأمني الذي تقوده إسرائيل. فاتفاق غزة أظهر محدودية القوة الإسرائيلية بالرغم من تفوقها في المنطقة، فإذا كانت إسرائيل قد حققت مكتسبات ضد "حزب الله" وإيران فهي بدت من دون استراتيجية خروج من حرب غزة مع عدم قدرتها على تحقيق "النصر المطلق" الذي وعد به بنيامين نتنياهو. وبالتالي فإن إسرائيل ما بعد "خطة العشرين" باتت مقيدة أكثر من حيث القدرة عل استخدام القوة، في وقت أن الحكومة الإسرائيلية نفسها باتت تحت شبه وصاية أميركية مع إنشاء مركز مراقبة الهدنة. وبالتالي فإن الحكومة الإسرائيلية هي في لحظة ضعف على المستوى الدولي والإقليمي، وهذا يفترض أن يقلل من قدرتها على تأمين غطاء أميركي لحرب جديدة ضد "حزب الله" في لبنان. فحتى إذا كانت تراود نتنياهو فكرة شن مثل هذه الحرب بهدف التفلت من القبضة الأميركية الجديدة، وبهدف لفت الأنظار عن الفشل في قطاع غزة مع إعادة "حماس" سيطرتها على المناطق التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي، فهو سيكون حذرا جدا في الذهاب بعيدا بهذا الخيار لأنه قد ينقلب ضده، خصوصا أن حربا جديدة يصعب أن لا تشمل اجتياحا بريا لاسيما في ظل التسريبات الإسرائيلية عن تعديل "حزب الله" لأسلوب عمله واتجاهه إلى الأسلوب السري التقليدي بأسلحة تقليدية وهو ما يصعب التعامل معه إلا من خلال اجتياحات برية، ستغرق الجيش الإسرائيلي في وحول لبنان كما أغرقته في وحول غزة.

فإذا كان "حزب الله" في موقع ضعف فإن نتنياهو ليس في موقع قوة كما كان قبل توقيع وقف إطلاق النار، فهو مقيد بقيود أميركية، وبقيود عربية أيضا في ظل الانخراط العربي الواسع في اتفاق وقف إطلاق النار، بحيث إن حفاظ ترمب على "إنجازه التاريخي" بات يتطلب أدوارا عربية جلها لا تتلاءم مع سياسات نتنياهو، ومن هنا يمكن فهم الديناميكية المصرية الجديدة تجاه لبنان، بوصفها جزءا من ديناميكية عربية أشمل فرضها وقف إطلاق النار في غزة، خصوصا أن مصر قادرة الآن وأكثر من أي وقت مضى على مخاطبة إيران، بعد الوساطة التي لعبتها بينها وبين وكالة الطاقة الذرية، وهو ما يفتح بابا عربيا للحوار  مع إيران بشأن "حزب الله" بالتوازي مع بدايات الفصل العربي بين مسألة سلاح "حزب الله" وتواصل الاعتداءات الإسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية، وهو ما يشكل أرضية مناسبة لإطلاق مسار تفاوضي متعدد الطبقات لـ"تحديث" اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان. 

font change