شريف خزندار "مسافر زاده الخيال"

حوارات أجرتها معه حنان قصاب حسن

غلاف كتاب "مسافر زاده الخيال"

شريف خزندار "مسافر زاده الخيال"

"رجل عبر القرن"، بهذه العبارة تفتتح حنان قصاب حسن كتابها "مسافر زاده الخيال"(دار أطلس- دمشق)، مع المسرحي السوري الفرنسي شريف خزندار (1940)، وذلك في سلسلة حوارات أجرتها الباحثة المسرحية السورية مع مواطنها الذي غادر دمشق باكرا إلى بيروت ثم باريس، متأبطا حلمه الذي بلا ضفاف.

كانت إطلالته الأولى على الخشبة في "نادي الدراما" بالجامعة الأميركية في بيروت، حيث أدى دور "كاليغولا" عن نص لألبر كامو أخرجه جان بيار بودون، كما تعرف الى جماعة" مجلة شعر"، وجلال خوري وبول غيراغوسيان، والتقى كوليت خوري التي رشحته للعب دور أمام فاتن حمامة في مشروع تحويل روايتها "أيام معه" للسينما، إلا أن المشروع لم يتحقق.

لاحقا دعاه صلاح ستيتية للمساهمة معه بكتابة تحقيقات من دمشق لملحق مجلة "لوريان لوجور"، وهناك تعرف الى أبرز تشكيليي المحترف السوري مثل فاتح المدرس (كتبا ديوانا شعريا مشتركا)، وإلياس زيات ولؤي كيالي ومحمود حماد ونعيم إسماعيل، وآخرين. وكان أول من كتب تحقيقا صحافيا بمشاركة لؤي كيالي عن رسوم الفنان الفطري أبي صبحي التيناوي التي كان يستلهمها من السير الشعبية.

"الاستثناء والقاعدة"

كأن وهج الثقافة السورية توقف عند وجوه ستينات القرن المنصرم، إثر انقلاب حزب البعث عام 1963 الذي هيمن على المناخ الثقافي باشتراطات إيديولوجية جديدة. وفي المقابل تسللت بعض المشاريع الثقافية من شقوق المؤسسة الرسمية، إذ شهد المسرح تجارب لافتة سواء في عروض المسرح القومي، أو "ندوة الفكر والفن" المستقلة التي أدارها رفيق الصبان بسلسلة عروض طليعية من المسرح العالمي، كانت دمشق تعيش نفحة من الهواء المنعش حرك الحياة الثقافية السورية بكل الاتجاهات، يقول خزندار.

شعر باختناق تدريجي يطبق على سوريا، مما جعله يقرر الرحيل إلى الجزائر وهناك عمل في الصحافة، قبل أن ينتقل إلى تونس

في تلك الفترة انخرط خزندار في عمل هذه الورشة بصفة خبير مسرحي، كما أخرج للمسرح القومي مسرحية "الاستثناء والقاعدة" لبرتولت بريخت، وقد حققت نجاحا كاسحا، إلا أن الرقابة الأمنية كادت أن تستدعيه للتحقيق اعتراضا على بعض الجمل الواردة في متن العرض لولا تدخل وزير الثقافة حينذاك سامي الجندي، كما استدعاه الكولونيل الانقلابي سليم حاطوم إلى مكتبه أثناء وجوده في مبنى التلفزيون فارتاب من هذا المناخ العدائي.

شريف خزندار

شعر باختناق تدريجي يطبق على سوريا، مما جعله يقرر الرحيل إلى الجزائر برفقة زوجته فرنسواز غروند، وهناك عمل في الصحافة، قبل أن ينتقل إلى تونس لإدارة مركز ثقافي دولي في مدينة الحمامات، وأخرج مسرحية "مجنون ليلى"، ثم أسس مركزا للدراسات العليا المسرحية، وفي المغرب تعاون مع الطيب الصديقي الذي كان يدير مسرح كازابلانكا في تجارب مخيبة لآمالهما، إذ اكتشفا أن بريخت وبيكيت لا مكان لهما في ذائقة الجمهور هناك.

طواف بين الثقافات

رحلة طواف طويلة لمسافر زاده الخيال انتهت به إلى باريس للدراسة في جامعة "مسرح الأمم"، والكتابة عن المسرح في مجلة "جون أفريك"، ثم العمل في "الهيئة الدولية للمسرح" التي تتبع منظمة "يونسكو"، إلا أن الانعطافة الثقافية في مسيرة شريف خزندار كانت مع تأسيس "بيت ثقافات العالم"(1982)، هذا البيت الذي سيعتني بفنون الفرجة، وعروض الحكواتية، ومسرح المقهى، في بحث جدي عن أشكال تعبير أصيلة تزيح النظرة الإكزوتيكية جانبا، وذلك بالاشتباك مع مسرح الشارع مباشرة، واستقطاب أشكال الفنون التقليدية من مختلف أنحاء العالم، وإصدار كتب حول أشكال فريدة من نوعها مثل الأقنعة وخيال الظل والرسم تحت الزجاج، وبمعنى آخر تعزيز ثقافة ما بعد الكولونيالية بقصد التعرف عن كثب الى ثقافة الآخر بما تحتويه من أنواع الاحتفالات والطقوس وأشكال التعبير غير المألوفة، أو "الغنائم" وفقا لتعبير فرنسواز غروند التي كانت تجول العالم لاكتشاف أنماط الفرجة المجهولة بما فيها "طقوس الشفاء"، و"التهاليل في العالم الإسلامي"، و "أغاني الحداد"، والمفارقة هنا أن النساء المغنيات رفضن الغناء لعدم وجود من يبكين عليه.

عمل على تأصيل مفهوم "التراث الثقافي اللامادي" كبديل لكلمة "فولكلور"، هذا المفهوم الذي "سمح بحماية أشكال الفرجة"

كما يغامر الطيب الصديقي بتقديم عرضه "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي، وكان لمجلة "أممية المخيلة"دورها الحيوي في تنظيم لقاءات مع أشخاص لهم وزنهم الثقافي، قبل إطلاق "مهرجان المخيلة" الذي ترك أثرا واضحا لدى المتلقي نظرا للتنويعات الثقافية التي رسمت قوسا مفتوحا لخرائط الفرجة في العالم أو الأشكال شبه المسرحية، و"دراسة أشكال العروض التي لا تندرج ضمن الأطر المسرحية الغربية، والاعتناء بكل ما يعرض على الخشبة".

حماية أشكال الفرجة

من ضفة أخرى، عمل شريف خزندار على تأصيل مفهوم "التراث الثقافي اللامادي" كبديل لكلمة "فولكلور"، هذا المفهوم الذي "سمح بحماية أشكال الفرجة، وإعطائها الحق الشرعي في أن تظل موجودة ولا تضيع".

غلاف كتاب "أطلس المتخيَّل"

يتذكر هنا التقاطعات بين هذه الثقافة أو تلك، إذ شهد ظواهر شبه مسرحية في المملكة العربية السعودية تتشابه مع الزار الأفريقي، كما اكتشف رجالا يزينون رؤوسهم بالورود في إحدى قبائل الجنوب، بالإضافة إلى التزيينات الخارجية والداخلية التي تضفي جمالا مدهشا على بيوت مدينة عسير التي سجلت في ما بعد في قائمة التراث اللامادي لـ"يونسكو".

أغنى خزندار تجربته المسرحية بالاهتمام بظواهر موازية تتعلق بمهنة الحكواتي، وصندوق العجائب، وعروض كاراكوز وعيواظ، والاحتفاظ بالنصوص الأصلية المكتوبة بطريقة مشفرة لحفظ سر المهنة الذي تتناقله العائلة أبا عن جد، لكن الكتاب الذي أعده عادل أبو شنب خلا من الكلمات البذيئة واستبدلت بنقاط. تتدارك حنان قصاب حسن بقولها: "أفهم تلك الطهرانية لأن الكتاب صدر عن مؤسسة رسمية، لكن ضياع المفردات البذيئة حرمنا من معرفة كيف كان شكل الخطاب في العروض في تلك الفترة".

ورغم انشغال شريف خزندار بإحياء أشكال التراث اللامادي نظريا وعمليا، إلا أنه لم يهمل مهنته كمخرج، إذ عاد إلى مهرجان الحمامات في تونس ثانية بعرض "رحلة الحلاج" عن نص لعز الدين المدني. منع العرض بعد أيام لأسباب مجهولة، لكنه استكمل عروضه في باريس لمدة شهر كامل على خشبة مسرح "الأليانس"، وسيليه عرض آخر كتبه عن الملكة السورية "جوليا دومنا" بأداء ميراي معلوف ونينار أسبر، وعرض ثالث عن "شجرة الدر" مع الممثلة السورية مها الصالح والمغنية وعد بو حسون التي كانت اكتشافا موسيقيا مبهرا، وصولا إلى حفل موسيقي في قصر الحمراء بغرناطة بعنوان" هنا ينام قلبي"، وفيه غنت وعد بو حسون قصائد لولادة بنت المستكفي وابن زيدون.

توثيق الذاكرة المسرحية

بإطلاقه برنامج "تيارات" في التسعينات، عمل شريف خزندار بدأب على التعريف بثقافات العالم كنوع من الحوار بين الثقافات والتشبيك بينها من موقع الاختلاف، وتوثيق الأرشيف الغني للذاكرة المسرحية العالمية من أميركا اللاتينية إلى الشرق الأوسط وأفريقيا.

حنان قصاب حسن

من جهتها، ترمم حنان قصاب حسن سيرة ضيفها بذكرياتها الشخصية عن ذلك الزمن السعيد الذي شهد أكثر المحطات توهجا بصرف النظر عن العقبات التي أجهضت بعض المشاريع الثقافية لرجل "عبر البلاد حاملا معه في جعبته خبرة مسرحية تراكمت مع الأيام، وبحث في تجليات وتلونات المخيلة البشرية".

في زيارته الأخيرة لدمشق عام 2008، أدرك شريف خزندار تحولات المشهد والمسافة التي تفصل بين صورتها القديمة وصورتها الراهنة

في هذه الحوارات المتبادلة التي استمرت نحو سنتين، تغلق حنان قصاب حسن القوس على ذكريات الطفولة وشوارع دمشق الخمسينات، وأشكال الفرجة حينذاك، وكيف اقتنى خزندار صندوق عجائب في استعادة متأخرة لذكرياته الأولى.

AAREF WATAD / AFP
لقطة جوية للمسرح الروماني في جبلة شمال غرب دمشق، في ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤

يقول: "أكثر ما أحفظه من ذكريات طفولتي، وترك أثرا في هو أن أخي الأكبر كان لديه صديق يجمع أسطوانات من بينها واحدة سجلت عليها نداءات الباعة المتجولين. كان ذلك يسحرني، وكنت أطلب من أخي أن يأخذني عند صديقه لأستمع الى تلك الأسطوانات"، ويضيف بحنين: "ظللت لفترة طويلة أبحث عن هذه الأغاني، وعن هذه النداءات. الآن أفكر أن تلك كانت أول علاقة لي بالتراث".

المدرج الأخير لرجل المطارات

في زيارته الأخيرة لدمشق عام 2008، أدرك شريف خزندار تحولات المشهد والمسافة التي تفصل بين صورتها القديمة وصورتها الراهنة: "أدركت وقتها كم أن ذلك البلد يعيش حالة ازدواجية. كانت هناك سوريتان: سوريا الناس الذين أعرفهم، سوريا المثقفين، وسوريا الآخرين الذين كانوا يعيشون حياة صعبة. كان هناك قطع جذري لا يمكن أن نشعر به في الأوساط التي نعيش فيها". أما صورة دمشق ما بعد 2011، فلم يرغب في أن يراها تنهار بتلك الطريقة: "كانت لدي هواجس تجاه الدمار والقتل والعنف والموت. كل ذلك بقي ماثلا في ذهني".

Xavier BARON / AFP
صورة للمسرح الروماني في بصرى التقطت في ابريل ١٩٧٤

يقيم شريف خزندار اليوم في الريف الفرنسي بعد أن أنهكته الرحلات، يتأمل شريط حياته بطمأنينة، "أعتقد أني قمت بكل ما كنت أحلم بالقيام به. أمضيت سنوات وأنا أنتقل من طائرة الى أخرى، ومن بلد الى آخر، وحان وقت الراحة".

font change