رهان إسرائيل على سوريا... الإكراه لا الحوار

لا تشعر إسرائيل بأنها مجبرة على تقديم أي تنازلات، فقواتها موجودة على الأرض بالفعل

سانا/أ ف ب
سانا/أ ف ب
الرئيس السوري احمد الشرع يصافح نظيره الاميركي دونالد ترمب في البيت الابيض في 10 نوفمبر

رهان إسرائيل على سوريا... الإكراه لا الحوار

لا تختلف الولايات المتحدة وإسرائيل اختلافا جوهريا إلا في بضعة مجالات، يبرز أحدها في سوريا بشكل غير متوقع إلى حد ما. فقد شعرت الأخيرة بالقلق إزاء احتضان الرئيس دونالد ترمب السريع للرئيس السوري أحمد الشرع، الذي وصفه وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأنه "جهادي يرتدي بدلة".

بوغتت حكومة نتنياهو عندما التقى ترمب بالقائد السابق لـ"جبهة النصرة" (المرتبطة بتنظيم "القاعدة") في السعودية في مايو/أيار الماضي. وطغى عليها شعور متزايد بالاستياء مع ظهور تقارب واضح بين الزعيمين، سواء على صعيد رمزي تبدى في زيارة الشرع للمكتب البيضاوي، أم على صعيد السياسة، كخطوة واشنطن لرفع العقوبات عن سوريا وضغطها المزعوم على إسرائيل لتطبيع العلاقات مع دمشق. وأبعد من ذلك، ازداد قلق المسؤولين الإسرائيليين من ميل توم باراك، سفير ترمب لدى تركيا وإحدى الشخصيات المحورية في الملف السوري، نحو تبني النهج الذي تفضله أنقرة.

ومن المؤكد أن الكثير من المراقبين الضالعين في الشأن السوري أشادوا بتواصل واشنطن السريع وغير المتوقع مع الزعيم السوري الجديد. ورفع قرار ترمب المبكر بإلغاء مجموعة من العقوبات الآمال في تسريع إعادة دمج سوريا بعد سنوات من العزلة، التي وُضعت في أوقات مختلفة ضمن إطار "محور الشر" وفقا لمنظور واشنطن أو "محور المقاومة" بحسب رواية طهران. وبدلا من تبني موقف حذر قائم على مبدأ "الإدانة حتى تثبت البراءة"، ابتعدت الولايات المتحدة بجرأة عن عبء الإثبات، وتعاملت مع الشرع على أنه "بريء حتى تثبت إدانته". وهذا التمييز ليس مجرد اختلاف في المصطلحات، فحتى التخفيف الجزئي للعقوبات يبعث برسائل واضحة إلى الشركاء والقوى الإقليمية بأن واشنطن لن تحول دون الاستثمار والتواصل الدبلوماسي مع سوريا الجديدة. ويتجنب في الوقت نفسه السيناريو الذي تُدفع فيه دمشق المهمشة إلى أحضان خصوم أميركا، أو تُجبر على الاعتماد على حليفتها الوحيدة منذ أمد بعيد، تركيا.

بعد أسابيع قليلة من زيارة الشرع للبيت الأبيض ولقائه بالرئيس ترمب، حرص نتنياهو على زيارة المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل في جنوب سوريا

بيد أن نتنياهو لا يرى في التحول على صعيد السياسة أو العلاقة الشخصية بين ترمب والشرع مجرد سياسة برغماتية، بل هي مخاطرة استراتيجية. وفي هذا السياق، ترى الحكومة الإسرائيلية أنها محقة في قرارها، الذي اتخذته في غضون ساعات من سقوط بشار الأسد، بشن ضربات واسعة على ما تبقى من مواقع عسكرية سورية وإنشاء منطقة عازلة جديدة خارج المنطقة منزوعة السلاح الحالية في جنوب سوريا. إن عقلية ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول السائدة بين عدد من مكونات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية واضحة: لا يمكن للبلاد أن تعتمد على حسن نوايا الآخرين، وإنما على قوتها العسكرية وحسب. ويرى أنصار هذا الرأي في سوريا مثالا واضحا على ما يذهبون إليه. لا يمكن لإسرائيل أن تُرسي أمنها استنادا إلى رئيس أميركي ودود ولكنه متقلب المزاج، أو إلى رهان غربي على أن الشرع سيواصل إظهار برغماتيته. فهي لن تعتمد إلا على الجنود على الحدود. نتيجة لذلك، وبعد أسابيع قليلة من زيارة الشرع للبيت الأبيض ولقائه بالرئيس ترمب، حرص رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على زيارة المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل في جنوب سوريا مرة أخرى، في رسالة واضحة: إسرائيل تملك أوراق قوة لن تتخلى عنها بدافع حسن النية والوعود.

زعيم لا "تشتريه" إسرائيل


ثمة ما يدعو إسرائيل للقلق بشأن أحمد الشرع. فهو ينحدر من أسرة تعود أصولها إلى مرتفعات الجولان، وكانت من بين آلاف السوريين الذين نزحوا جراء استيلاء إسرائيل على المنطقة عام 1967، وانتقلوا إلى دمشق  (بعد بغداد ثم الرياض). ورغم أنه قضى معظم طفولته في العاصمة السورية، فإن أحمد الشرع اتخذ اسم "الجولاني" (نسبة إلى "الجولان") عندما أسس "جبهة النصرة". وقد تقاطعت مسيرة تطرف الشرع، من مراهق خجول ومنطوٍ على نفسه إلى عضو في تنظيم "القاعدة" في العراق، مع الانتفاضة الثانية في جزء منها.

لا يعتبر تحول سوريا إلى الديمقراطية الشغل الشاغل لإسرائيل بالتأكيد، غير أن استعداد الشرع لتقاسم السلطة يبقى مؤشرا هاما تراقبه إسرائيل باهتمام

عبّر الكثير من المسؤولين الإسرائيليين عن شكوكهم العميقة تجاه الشرع. واتسمت تصريحات الحكومة الإسرائيلية العلنية تجاهه بالاستخفاف المستمر. فقد وصف وزير الخارجية جدعون ساعر حكومة دمشق الجديدة بأنها "عصابة وليست حكومة شرعية". وقال عن قادتها إنهم "إرهابيون كانوا في إدلب أولا ثم استولوا على العاصمة". ونشرت وزارة الخارجية صورة للشرع مع تعليق: "الجهاديون الذين يرتدون البدلات الرسمية ما زالوا جهاديين". كما استشهد وزير شؤون الشتات الإسرائيلي، عميحاي شيكلي، بمقطع فيديو يُظهر وحدات من الجيش السوري تهتف بشعارات مؤيدة لغزة، ليخلص إلى أن "الحرب حتمية".

 أ ف ب
جندي اسرائيلي يطل من هضبة الجولان على جنوب سوريا في 25 مارس

وفي حين ترك نتنياهو أتباعه الموالين يقومون بالأعمال القذرة ويهاجمون بضراوة وقسوة، اتخذ موقفا أقل حدة ولكن أكثر وضوحا. وقال عقب اجتماعه مع الرئيس ترمب: "عندما أنظر إلى الشرع، سأنظر إلى ما يُنجز على أرض الواقع، وما يتحقق بالفعل. هل ستصبح سوريا دولة مسالمة؟ وهل سيقضى على الجهاديين في جيشه؟ وهل سيعمل معي على الوصول إلى منطقة منزوعة السلاح في جنوب غرب سوريا؟". وفي اجتماع خاص بعد زيارة الشرع لواشنطن، ورد أن نتنياهو حذّر من أن احتضان الغرب للزعيم السوري قد "أصاب الشرع بالغرور"، ملمحا إلى أنه لن يسمح بتحويل حسن النوايا الغربية إلى أداة ضغط على إسرائيل.

حسابات إسرائيل


تُعتبر تصريحات رئيس الوزراء نتنياهو بالغة الأهمية لفهم الموقف الإسرائيلي على حقيقته: إنه مجرد تكتيك تفاوضي. فالحكومة الإسرائيلية لا ترى في أحمد الشرع "فصلا جديدا" في دمشق، بل خطرا محتملا ينبغي تقييده. ونتنياهو يستخدم مسيرة الشرع وتاريخه الجهادي كأداة ضغط، في الوقت الذي يختبر فيه برغماتيته، ويحاول تشكيل نظام ما بعد الحرب في سوريا بطرق يعتقد أنها ستحافظ على التفوق الاستراتيجي لإسرائيل.
ولعل تلك المخاوف الإسرائيلية بشأن الشرع لم تأت من فراغ وليست مجرد تصورات مختلقة. فالشرع سارع إلى تعزيز سلطته على الموالين له وتعيين نفسه رئيسا للبلاد. ورغم أنه أبدى بعض المبادرات تجاه الأقليات، فإن النظام الانتقالي لم يتجه نحو ديمقراطية حقيقية: تم اختيار جزء من أعضاء مجلس الشعب الجديد من قبل الرئيس والجزء الباقي عبر هيئات انتخابية محلية. لقد أفسح نموذج الحكم الذي انتهجته "هيئة تحرير الشام" في إدلب مجالا لبعض التمثيل المحلي، لكنه أمسك في الوقت نفسه بمفاتيح السلطة الفعلية وجعلها في يد الشرع والهيئة نفسها. ولا يعتبر تحول سوريا إلى الديمقراطية الشغل الشاغل لإسرائيل بالتأكيد، غير أن استعداد الشرع لتقاسم السلطة يبقى مؤشرا هاما تراقبه إسرائيل باهتمام، خاصة في تقييمها ما إذا كان ينأى بنفسه حقا عن شبكاته القديمة أم إنه ما زال يعتمد عليها؟

وحتى لو كان الشرع برغماتيا في الصميم ومنفتحا على صيغة تعايش مع إسرائيل، فهو ما يزال بحاجة إلى إقناع جماعته وضمان دعمها في خطواته المقبلة. فـ"هيئة تحرير الشام" (الحركة التي قادها في هجوم حلب العام الماضي الذي عجّل بانهيار النظام)  تضم نواة صلبة من المقاتلين ذوي التوجهات الأيديولوجية المتشددة، وهم أقل مرونة من قائدهم. لقد واجه الشرع هذه المشكلة من قبل: ففي إدلب، حارب فروعا من تنظيم "داعش"، ثم اصطدم مع "حراس الدين"، وهم فرع من تنظيم "القاعدة" استقطب أعضاء سابقين في "هيئة تحرير الشام" خاب أملهم بسبب ابتعاده عن الجهادية العابرة للحدود. حتى إنه تعاون سرا مع الولايات المتحدة، وقدم معلومات استخباراتية ساهمت في اغتيال أفراد من تنظيم "القاعدة" في إدلب. وبعد توليه الرئاسة، وافق أيضا على انضمام سوريا رسميا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
لا شك أن قرار الانفصال عما سيصبح لاحقا تنظيم "داعش"، ثم التخلي كليا عن تنظيم "القاعدة"، لم يكن نابعا من حسن النية على الإطلاق، بل ساهم في ترسيخ سلطة الشرع. فمن خلال قطع علاقاته مع داعميه السابقين من الجهاديين، أكد الزعيم السوري سيطرته على مصيره السياسي. وقد يبدو هذا النوع من البرغماتية القاسية مطمئنا من وجهة نظر إسرائيل، إلا أنه وفي مفارقة عجيبة، يدفعها في الوقت نفسه إلى التأكد من أن الإكراه يلقي بظلاله الدائمة على المفاوضات.
ونظرا إلى مسيرة الشرع، يبرز سؤال بالغ الأهمية حول قدرته على كبح جماح القوات الموالية له إذا ما قُيض له أن يوقع اتفاقا مع إسرائيل. ويشير قتل المدنيين على يد القوات الموالية للحكومة (خلال تمرد قصير لفلول نظام الأسد في الساحل وفي اشتباكات مع المجتمعات الدرزية في الجنوب) إلى أن السلطات الانتقالية تفتقر إلى السيطرة الكاملة على قواتها، أو أنها تغاضت عن الانتهاكات، أو ما هو أسوأ من ذلك.
وينبغي أن لا نغفل عن مساهمات إسرائيل في إضعاف الدولة المركزية الناشئة. حيث شنت حكومة نتنياهو ضربات متكررة على مستودعات الأسلحة السورية، ويبدو أنها تراهن على بلد أكثر ضعفا وتشتتا بدلا من بلد قوي. ومن خلال استمالة فصائل الأقليات ومنع دمشق من فرض كامل سيطرتها على الجنوب، يأمل نتنياهو على الأرجح أن يحافظ على شراكات مع القوات المحلية التي يمكن أن تشكل منطقة عازلة بين العاصمة السورية وحدود إسرائيل.

موقف متشدد 


إن النهج المتشدد الذي اتخذه نتنياهو تجاه سوريا بسيط نسبيا: إسرائيل لن تتزحزح عن موقفها لأنها تعتقد أنها تمسك بزمام الأمور بإحكام. إن باب الحوار مفتوح، ولكن ليس قبل أن توافق سوريا على تشديد البنية الأمنية بشكل جوهري في الجنوب واستمرار هيمنة إسرائيل على المناطق الرئيسة على الأرض وفي المجال الجوي.

 أف ب

ويبدو أن الحكومة السورية وافقت على بعض مطالب إسرائيل، إلا أنها رفضت مطالب أخرى تعتبرها انتهاكا للسيادة السورية. ولا تشعر إسرائيل بأنها مجبرة على تقديم أي تنازلات، فقواتها موجودة على الأرض بالفعل، والوضع الراهن (المتمثل في ضعف الدولة السورية المركزية واستمرار الوجود الإسرائيلي) هو أمر يمكن لنتنياهو التعايش معه. في الواقع، إن استمرار إسرائيل في حملتها الرامية إلى تشويه سمعة الشرع قد يجعل تبرير أي اتفاق محتمل أكثر صعوبة.

تقف إسرائيل في سياستها تجاه سوريا على ضفتين متباعدتين: فمن ناحية، ثمة عداء صريح للحكومة الجديدة؛ ومن ناحية أخرى، هناك ثقة ساذجة بزعيم ذي ماض مثير للقلق

وهذا جزء من الخطر الذي أولته عدة قطاعات من الجهاز الأمني الإسرائيلي الاهتمام والحذر. تشعر إسرائيل حاليا بأن الوقت في صالحها، إلا أنها قد تفوت على نفسها فرصة التوصل سريعا إلى اتفاق يضع نوايا الشرع أمام اختبار حقيقي. فمن خلال البقاء في جنوب سوريا ومحاولة استقطاب الأقليات، ثمة مخاوف بأن ترسخ إسرائيل معارضة جدية لأي اتفاق مستقبلي، وتدفع دمشق نحو تعاون أوثق مع حليفتها الحقيقية الوحيدة تركيا، وتؤجج العداء لدى السكان المحليين في القرى القريبة من الحدود الإسرائيلية. وخارج حكومة نتنياهو، يعبر بعض المحللين والمهتمين عن هذه المخاوف علنا. فقد زعم رئيس المخابرات العسكرية السابق، عاموس يادلين، في مقال له، بأن الاتفاق مع سوريا هو أهم سلاح ضد "حزب الله"، مشيرا إلى أن الاستراتيجية الصحيحة في سوريا تكمن في إغلاق الجبهة، كي تتمكن إسرائيل من التركيز على تهديدات أكثر إلحاحا. وحذر "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي"، وهو أبرز مركز أبحاث في إسرائيل، من أن الموقف العسكري الإسرائيلي العدواني قد يخلق التهديدات ذاتها التي تسعى إلى منعها (وهو تقييم شاركه هذا الكاتب في مقالات سابقة حول هذا الموضوع)، ودعا مركز الأبحاث إلى "انخراط حذر".

رويترز
عربات اسرائيلية قرب خط وقف اطلاق النار بين سوريا وهضبة الجولان التي تحتلها اسرائيل في 9 ديسمبر 2024

تقف إسرائيل في سياستها تجاه سوريا على ضفتين متباعدتين: فمن ناحية، ثمة عداء صريح للحكومة الجديدة؛ ومن ناحية أخرى، هناك ثقة ساذجة بزعيم ذي ماض مثير للقلق. ولا يزعم منتقدو نهج نتنياهو أن على إسرائيل أن تتأرجح بين هاتين الضفتين، بل يدعون إلى معايرة أكثر دقة وتعديل دقيق ومستمر لسياستها واستراتيجياتها؛ معايرة لا تتعامل مع الشرع كتهديد محتمل وحسب، بل كفرصة سانحة أيضا.

font change

مقالات ذات صلة