كيف قلب ترمب اقتصاد العالم رأسا على عقب في 100 يوم؟

ثلاثة أشهر من الشعبوية والتعريفات "الجنونية" وتدمير عقود من قواعد التجارة وقوانينها

ناش ويراسيكيرا
ناش ويراسيكيرا

كيف قلب ترمب اقتصاد العالم رأسا على عقب في 100 يوم؟

قد تكون الأيام المئة الأولى التي أمضاها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في البيت الأبيض من الأطول على الإطلاق في تاريخ نوائب الاقتصاد العالمي، منذ إطلاق "وزارة كفاءة الحكومة" التي يديرها إيلون ماسك، وصولا الى حرب الرسوم الجمركية. ثلاثة أشهر حملت من المفاجآت، للحلفاء قبل الخصوم، ما لا يتصوره عقل اقتصادي راجح، وكانت أشبه بسيرك للألعاب البهلوانية، استحال حلبة ملاكمة بين كبارٍ، الجميع فيها مهزوم.

غالبا ما تُقيَّم المئة يوم الأولى من الرئاسة بالخطوات الجريئة، بما فيها تنفيذ بعض الوعود الرئاسية الانتخابية، ورسم مسارات العمل المستقبلية، وتقييم أداء فريق الإدارة الجديدة. لكن الأمر لم يكن كذلك للرئيس ترمب، الشخصية الأكثر إثارة للجدال ورسومات الكاريكاتور، الذي تتخذ سياساته طابع الصفقات والمناورات والمفاوضات التي عهدها في أعماله التجارية، غير مكترث لإخفاء استغلال منصبه ونفوذه باعتبارهما امتدادا لمصالحه الخاصة، أو لآرائه الشخصية على الأقل.

أسلوب ترمب "الوقح" لم يردعه عن طرح ضم كندا إلى أميركا لتكون الولاية الحادية والخمسين، وكذلك غرينلاند، متجاهلا أي وجود لسيادتها، الى إعلانه أحقية الولايات المتحدة في عبور سفنها مجانا قناتي "السويس" و"بنما" التي سبق أن هدد باستعادتها قبل شراء شركة "بلاك روك" الأميركية موانئ استراتيجية تابعة لها، وكذلك "الاستيلاء" على غزة وتحويلها إلى "ريفييرا الشرق الأوسط". وهي تصريحات أثارت قلق دول العالم.

في هذه الأثناء، لم تكن الأمور على ما يرام في الداخل أيضًا. فقد أظهرت الأرقام الصادرة عن وزارة التجارة في 30 أبريل/نيسان انكماش الاقتصاد الأميركي بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار، مسجلاً أسوأ أداء له منذ ثلاث سنوات. وبالطبع، ألقى ترمب باللوم في ضعف الأداء على سلفه، ولكن في الواقع، فإن الانكماش المسجل والذي بلغ 0,3 في المئة أقل بكثير من معدل النمو القوي البالغ 2,4 في المئة المحقق خلال الأشهر الثلاثة السابقة في عهد جو بايدن.

كل ما شهدناه قد لا يكون سوى فاتحة لمشهد أكبر، فعندما سئل ترمب في مقابلته قبل يومين مع مجلة "أتلانتيك" عن إمكان ترشحه لولاية ثالثة عام 2028، قال إنها "ستكون زلزالا سياسيا كبيرا"، على الرغم من إقراره بأن "هذا ليس شيئا أطمح إليه، وأعتقد أنه سيكون أمرا صعبا للغاية"، مع أنه "لا يمزح" في هذا الشأن، كما قال لشبكة "أن. بي. سي. نيوز" الشهر الماضي.

الأهم اليوم، مع مصيبة "عدم اليقين" التي تضرب الدول وأسواقها، ليس استعراض ما ارتكبه "المدير العام" لاقتصاد العالم في مئة يوم، بل البحث عن إجابات عن ماذا بعد انتهاء مهلة التسعين يوما

لعل الأهم اليوم، مع مصيبة "عدم اليقين" التي أصابت مختلف دول العالم وبورصاتها أسواقها وتجارتها وسلاسل توريدها، ليس استعراض ما ارتكبه "رجل الأعمال" ترمب باقتصاد العالم خلال المئة يوم الأولى، بل البحث عن إجابات بعد انتهاء مهلة التسعين يوما في التاسع من يوليو/تموز المقبل، ما دام الرجل "يستمتع" بما يقوم به، "فأنا أدير البلاد والعالم" في الولاية الثانية، كما قال للـ"أتلانتيك".

ماذا فعل "المدير العام" في مئة يوم؟

لم تكن الأشهر الأولى من رئاسة "المدير العام" لاقتصاد العالم مثيرة للإعجاب في الاستراتيجيا الاقتصادية التي اعتمدها في وجه شركاء الولايات المتحدة التجاريين وحلفائها التاريخيين، بل يمكن أن توصف بأنها قرارات مرتجلة، بما تنطوي عليه من تداعيات شديدة الخطورة. فبعد مئة يوم، تخللها فرض تعريفات جمركية "جنونية"، بلغت 145 في المئة على الصين، ها هو العالم برمته في حال استنفار وترقب وسباق للتسلح بالآليات التجارية المضادة استعدادا لمعارك قاسية وطويلة الأجل. وها هم الاقتصاديون يعيدون النظر في معادلاتهم ونظرياتهم الاقتصادية التي اختلت بضياع المنطق السياسي والتجاري وغياب القدرة على التوقعات، من رؤساء الشركات العملاقة الى المسؤولين الكبار في صندوق النقد والبنك الدوليين والاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)وأسواق الأسهم.

مئة يوم من الصراع بين الشعبوية التي سادت منذ حملة ترمب الانتخابية وبين الحسابات الاقتصادية التي نسفتها مزاجية الرجل، الأمر الذي يضع على المحك، النمو المستدام وشعارات التنافسية والاكتفاء الذاتي واستعادة الأمجاد الأميركية في الريادة. حتى "وزارة الكفاءة" (DOGE) أثبتت عدم كفاءتها بعد مئة يوم من إطلاقها، حيث وصتفها جيسيكا ريدل، الباحثة في معهد مانهاتن، وهو مركز أبحاث محافظ ماليا يدعم تبسيط الإجراءات الحكومية، بالبرنامج غير الجاد. وقدرت ريدل أن البرنامج لم يوفر سوى 5 مليارات دولار حتى الآن، وتعتقد أن تكلفته ستتجاوز ما يوفره.

ديانا استيفانيا روبيو

من "وول ستريت" إلى "شنغهاي"، نشر ترمب "عدم اليقين"، وأطلق نظاما اقتصاديا عالميا يعيد حاليا حساباته الاقتصادية والجيوسياسية بقلق شديد، وخصوصا علاقاته مع أميركا "العظمى"، ومع الصين، الشريك والغريم الأبرز في الآن نفسه للولايات المتحدة. إرث اقتصادي ثقيل خلفته المئة يوم الأولى من حكم الرجل، فما هي أبرز مضامينه وتبعاته، وعلام يمكن أن تسفر المفاوضات والمناورات التي يقوم بها وفريقه مع مختلف دول العالم؟

انتصارات اقتصادية "وهمية" وغموض عالمي

ارتكزت سياسات ترمب الاقتصادية، مع دخوله البيت الأبيض، على إعادة تشكيل الاقتصاد الأميركي خدمة لأجندة "أميركا أولا"، وقد أحدثت هذه السياسات التي توجت بإطلاق "حمائية أميركية"، ندوبا في النظام المالي العالمي. لم يدم تفاؤل الأسواق مع انطلاقة ترمب الصاروخية، ذلك أن وعوده بدعم الأعمال وخفض الضرائب لم تتحقق بعد، بل انقلبت توقعات النمو سلبية، بشهادة صندوق النقد الدولي (أنظر إنفوغراف توقعات النمو أعلاه)، لتسود حال من "عدم اليقين" والتذبذب لدى المستثمرين، ظهرت جلية في الارتفاع الصاروخي لأسعار الذهب، والانهيارات القياسية والمتعاقبة لأسواق المال والأسهم والعملات المشفرة عند كل مفترق، فباتت هذه الأسواق في حال مستمرة من الترقب لما قد يصدر عن ترمب من قرارات عشوائية ومربكة لم تستطع مختلف المؤسسات المالية الدولية والشركات في الداخل والخارج أن تفهم الغاية المرجوة منها.

تلاشت الهالة الدولية لمنظمة التجارة العالمية (WTO) وباتت عاجزة ومكبّلة، وكأنها طائر جريح ينازع سكرات الموت بعد ضربات ترمب المتتالية

فقد استدعى شعار "أميركا أولاً" إعادة النظر في اتفاقات الشراكة عبر المعمورة، والتراجع عن اتفاقات التجارة المتعددة الأطراف إلى الاتفاقات الثنائية. وقد أثارت تهديداته بإعادة التفاوض حول اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) مواقف سيادية قد تكون صادمة، أبرزها الموقف الكندي الذي أعلن صراحة انتهاء العلاقات التاريخية مع الولايات المتحدة. وفي حين شَهرَت بكين أسلحتها "التكنولوجية والمعدنية" في وجه أميركا والعالم، في رسالة واضحة إلى الدول التي استجابت وستستجيب للتفاوض مع ترمب في شأن رفع التعريفات الجمركية خلال مهلة الـ90 يوما على حساب مصالحها مع الصين. فهي حتما تستعد لسلسلة من الحروب المحتملة ليست تجارية فحسب، بل تكنولوجية، تندرج رقائق الذكاء الاصطناعي في مقدمها، وهو القطاع الذي لا تألو بكين جهدا لدعمه في التمويل وتنمية أبحاثه ومهاراته.

نهاية العولمة و"منظمة التجارة العالمية"

وما قرار الصين وقف تصدير المعادن الأرضية النادرة التي تعتمد عليها الولايات المتحدة بنسبة تفوق 80 في المئة في الصناعات الدفاعية والتكنولوجية، إلا دليل على جدية هذه الحرب وخطورتها، وهو من جملة الأسباب التي دفع ترمب إلى استئناف المفاوضات لوقف الحرب الروسية على أوكرانيا وإبرام صفقة المعادن مع كييف تحت عنوان "رد الجميل الأميركي"، التي ستتيح للولايات المتحدة الوصول إلى معادن الأرض النادرة في أوكرانيا في مقابل إنشاء صندوق استثماري فيها.

وبين آفاق النمو الأميركية الضبابية وصعود الحمائية وما يقابلها من إجراءات مضادة انتقامية تهدد سلاسل التوريد والاقتصادات المعتمدة على التصدير، يتأرجح الاقتصاد العالمي صعودا وهبوطا ليصطدم بنهاية وشيكة لعقود من العولمة، في وقت تلاشت الهالة الدولية لمنظمة التجارة العالمية (WTO) وباتت عاجزة ومكبّلة، وكأنها طائر جريح ينازع سكرات الموت بعد ضربات ترمب المتتالية.

السؤال المطروح بعد مئة يوم، هل سيتمكن ترمب من تحويل وعوده وقراراته إلى سياسات مستدامة؟ إذا نجح، فقد تشهد الولايات المتحدة انتعاشا داعما للأعمال. أما إذا فشل، واستمر في تراجعاته المُذلة، فقد تتحول فقاعة الانتصار إلى ركود، وفي كلتا الحالتين، لن ينجو الاقتصاد العالمي من الصدمة.

التداعيات المبكرة بالأرقام

لعل أبرز حدث كلل الأشهر الأولى من ولاية ترمب، إعلانه في الثاني من أبريل/نيسان، الذي سماه "يوم التحرير" والذي قد يكون نقطة التحول الأعنف منذ الحرب العالمية الثانية، فرض تعريفات جمركية وصفت بالخيالية على نحو 60 دولة في العالم، في مقدمها شركاء الولايات المتحدة التجاريون وحلفاؤها السياسيون من الدول العظمى، بهدف تقليص العجز التجاري الذي وسم التجارة الأميركية على مدى عقود، وزيادة إيرادات الخزينة الأميركية تعويضا عن الإعفاءات الضريبية الموعودة للشركات التي ستلتزم نقل مصانعها وإنتاجها إلى الداخل.

من المتوقع أن تؤدي هذه التعريفات إلى خفض كل من الواردات والصادرات بنحو 5 في المئة اعتبارا من منتصف عام 2025، مما يؤدي إلى تباطؤ النمو في الناتج المحلي الإجمالي

"كابيتال إيكونوميكس"

في حين تبدو المعادلة الجديدة منصفة ومنطقية، إلا أنها تصطدم بعدم جهوزية الداخل الأميركي لهذا الانقلاب الكبير، على صعيد الأعمال والمستهلكين على حد سواء، فهم أول من استشعر تداعيات ذلك على نحو مباشر ومؤلم، إن لجهة ارتفاع تكلفة الانتاج بسبب الاعتماد لعقود على الاستيراد، أو لجهة ارتفاع تكلفة المعيشة.

إذ يتوقع أن تضيف الخفوضات الضريبية الممددة والإعفاءات الجديدة، نحو 4,6 تريليونات دولار إلى العجز الوطني وفقا لـ"ماركت ووتش". وترتفع تقديرات الخسائر لدى الأسر الأميركية إلى 3,800 دولار بحسب مختبر الموازنة في جامعة ييل نتيجة ارتفاع الأسعار بنسبة 2,3 في المئة على المدى القصير بسبب التعريفات الجمركية.

ديانا استيفانيا روبيو

إنفوغراف: المعادن النادرة سلاح الصين ضد تعريفات ترمب الجمركية

وعلى صعيد الاقتصاد الكلي، تتوقع "كابيتال إيكونوميكس" أن تؤدي هذه التعريفات إلى خفض كل من الواردات والصادرات بنحو 5 في المئة اعتبارا من منتصف عام 2025، مما يؤدي إلى تباطؤ النمو في الناتج المحلي الإجمالي. وتتوقع مصادر أخرى أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي في الدول المتضررة من التعريفات الجمركية بنسبة تصل إلى 9 في المئة، كل بحسب اعتمادها التجاري على الولايات المتحدة. أما صندوق النقد الدولي، فقد خفض توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي لعام 2025 إلى 2,8 في المئة، كإحدى التبعات السلبية المباشرة للرسوم الجمركية الأميركية.

إضعاف الدولار عن سابق تصور وتصميم

هذا عدا الحديث الرائج حاليا عن ضعف الدولار، وإمكان انهياره بسبب تضخم مديونية الولايات المتحدة وتخطيها عتبة الـ36 تريليون دولار، من بين أسباب أخرى، ليس آخرها اتفاق "مارالاغو"، الذي يقول بأن تحفظ الولايات المتحدة أمن الدول بقوتها العسكرية في مقابل دعمها خفضا منظما في قيمة الدولار ودعم الصناعات الأميركية وشراء منتجاتها، وهو يشبه اتفاق "بلازا" الذي تم التوصل إليه في عام 1985، والذي ساعد على خفض قيمة الدولار لجعل الصادرات الأميركية أكثر تنافسية. كل هذا أثار عاصفة من المخاوف في شأن مستقبل سعر العملة الخضراء ومكانتها كعملة احتياط وادخار، وتاليا الاستدامة المالية للولايات المتحدة والدول أجمع على المدى الطويل.

لم يكن الاقتصاد العالمي في أفضل أحواله قبل مجيء ترمب، أما اليوم فهو على شفير فوضى عارمة إذا ما خابت سياسات البيت الأبيض وأوراق الرئيس التفاوضية ومناوراته السياسية والاقتصادية

في غضون ذلك، وقف رئيس مجلس الاحتياطي الفيديرالي جيروم باول سدا منيعا في وجه ترمب، يصارع مع زملائه في المجلس من أجل عدم المساس بمعدلات الفائدة كإجراء احترازي لارتفاع التضخم الذي انخفض إلى 2,7 في المئة أواخر عام 2024، والذي تتوقع "كابيتال إيكونوميكس" أن يصل إلى نحو 3 في المئة.

من يرفع راية الحريات الاقتصادية؟

ومن داخل البيت، لم يتمكن أي من أعضاء فريق ترمب من تفسير أفعاله، أو كبح جموحها، فجميعهم مبتدئون في العمل الحكومي، باستثناء الممثل التجاري الأميركي جيميسون غرير، بالإضافة إلى مستشار البيت الأبيض بيتر نافارو، المتطرف في دعمه للتعريفات.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مع إيلون ماسك الرئيس التنفيذي لشركة تسلا، في البيت الأبيض، واشنطن، 11 مارس 2025

وقد تُركت مهمة تبرير قرارات الرئيس-"المدير العام" في معظمها لوزير التجارة الأميركي هاورد لوتنيك، الذي توقع أن تؤدي التعريفات الجديدة إلى توفير ملايين الوظائف للأميركيين، على الرغم من أن بعض الشركات الصناعية ألقت باللوم على التعريفات في عمليات تسريح العمال. أما وزير الخزانة سكوت بيسنت، فقد بدا ضائعا، حيث أصر على أن إعلان التعريفات كان مجرد استراتيجيا تفاوضية، في حين أن نافارو ولوتنيك وآخرين قالوا العكس تماما. ومع ذلك، منح ترمب بيسنت دورا قياديا في محاولة التفاوض على صفقات تجارية جديدة، كما جاء في تقارير "فورين بوليسي".

لم يكن الاقتصاد العالمي في أفضل أحواله قبل مجيء ترمب، أما اليوم فهو على شفير فوضى عارمة إذا ما خابت سياسات البيت الأبيض وأوراق الرئيس التفاوضية ومناوراته السياسية والاقتصادية. ومن سخريات القدر، أن يأتي يوم تتحوّل فيه واشنطن إلى خصم للنظام التجاري العالمي الحر، وداعية إلى رفع الحواجز الجمركية، في وقت تتقدم بكين لتدافع عن حرية التبادل التجاري والعولمة.

font change

مقالات ذات صلة