"لحظة تيانجين"... كيف تصوغ تعريفات ترمب نظاما عالميا جديدا

قمة منظمة شنغهاي للتعاون وزيارة مودي للصين تعززان تشكيل "إجماع الجنوب العالمي"

ناش ويراسيكيرا
ناش ويراسيكيرا

"لحظة تيانجين"... كيف تصوغ تعريفات ترمب نظاما عالميا جديدا

عقدت الأحد قمة "منظمة شنغهاي للتعاون" في تيانجين، وهي أكثر بكثير من مجرد اجتماع آخر لهذا التحالف الأمني الأوراسي الشرقي القائم منذ 25 سنة. ويكشف توقيتها عن التحولات العميقة التي تعيد تشكيل النظام العالمي. وهي تتزامن مع زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الأولى للصين منذ سبع سنوات، المترافقة مع تهديد واشنطن بفرض رسوم عقابية تصل إلى 50 في المئة على الصادرات الهندية، في خطوة تهدف إلى إرغام نيودلهي على الامتثال في جبهتين. ويشارك في القمة أيضا إلى جانب الرئيسين الصيني والروسي شي جين بينغ وفلاديمير بوتين حشد من قادة العالم الذين يمثلون أكثر من نصف البشرية.

وكانت سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرض رسوم جمركية مرتفعة، والهيمنة الأميركية المتعاظمة محور النقاشات، التي قد تؤدي إلى تسريع قيام إجماع عالمي موازٍ لا تكون الولايات المتحدة جزءا منه.

ويأتي تحذير إدارة ترمب للهند وقف شراء النفط الروسي، مع السعي في الوقت نفسه إلى تفكيك الحواجز التجارية التي تحمي الزراعة الهندية، ليزيد تعقيد العلاقات بين البلدين. ويكشف رد مودي على القيود التي تفرض على الهند، التي كانت تُعَد يوما ما أكثر الشركاء استعدادا للتعاون مع واشنطن في أمن الطاقة، ان الهند لا تستطيع التراجع لأن الأمر يتعلق بالأمن القومي، وتمثل حماية الزراعة، صون سبل عيش المزارعين التزاما سياسيا داخليا لا يتزحزح.

تتحول رحلة مودي إلى تيانجين من مجرد لقاء ثنائي مع الصين إلى إعلان أن القوى الصاعدة في العالم ستؤسس شراكاتها الاستراتيجية الخاصة، ولن تُخضِع مصالحها الوطنية الجوهرية بما يرضي أميركا

وبذلك تتحول رحلة مودي إلى تيانجين من مجرد لقاء ثنائي مع الصين إلى إعلان أن القوى الصاعدة في العالم ستؤسس شراكاتها الاستراتيجية الخاصة، ولن تُخضِع مصالحها الوطنية الجوهرية في صورة ترضي الولايات المتحدة، في إشارة إلى أن عصر الهيمنة الغربية المطلقة على صوغ الترتيبات العالمية قد شارف الأفول.

تداعيات التعريفات على دول "بريكس"

عندما تهدد الولايات المتحدة بفرض رسوم تصل إلى 100 في المئة على دول "بريكس" التي تتجه جماعيا نحو فك الارتباط بالدولار، وتفرض رسوما قاسية على اقتصادات المجموعة (أكثر من 55 في المئة على الصين، و50 في المئة على الهند والبرازيل، و30 في المئة على جنوب أفريقيا، وحظر تجاري فعلي مع روسيا)، تقدم واشنطن من غير قصد إلى تلك الاقتصادات الحافز والمبرر لتعزيز مدار اقتصادي عالمي جنوبي يقوم على تصميم جديد للهياكل المالية والتجارية المتعددة الأطراف.

رويترز
الرئيس الصيني شي جينبينغ يصافح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، على هامش اجتماعات " بريكس" في قازان، روسيا 23 أكتوبر 2024

وعلى الرغم من التوترات الديبلوماسية الطويلة والنزاعات الحدودية القديمة، تبدي العلاقة الاقتصادية بين الصين والهند مرونة ملحوظة. لقد قفز حجم التجارة الثنائية بنسبة 55 في المئة منذ عام 2020 ليصل إلى 127.7 مليار دولار عام 2025. لكن العلاقة تكشف أيضا عن تفاوت صارخ: تستورد الهند من الصين ما يقارب 10 أضعاف ما تصدره إليها.

والأكثر لفتا للنظر أن أكبر فئة من صادرات الصين إلى الهند – الدوائر المتكاملة – بلغت نحو 10 مليارات دولار. وكانت الفئات الثلاث الأولى كلها في قطاعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمعدات التكنولوجية. وبينما تسعى واشنطن إلى فك ارتباطها التكنولوجي بالصين، تبقى شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى معتمدة في شكل غير مباشر على المكونات الصينية التي تمر عبر الأسواق الهندية، مما يبرز استحالة الانفصال الاقتصادي الحقيقي في نظام عالمي متكامل.

أربعة تطورات محورية تشكل النظام العالمي البديل في العقود المقبلة، وكلها تتسارع بفعل السياسات الأميركية الحالية هي: التعاون التكنولوجي، فك الارتباط التجاري بالدولار، الإطار الأمني والعسكري وإعادة تنظيم تدفقات الطاقة

وحين يصف ترمب مجموعة "بريكس" بأنها "معادية لأميركا" ويهدد أعضاءها برسوم عقابية، يحوّل هذا التحالف، الذي كان متباينا اقتصاديا وضعيف الالتزام، إلى كتلة استراتيجية متماسكة تتوحد بدوافع مشتركة ضد الأحادية الأميركية وبغريزة البقاء الجماعي في مواجهة الإكراه الأميركي.

هندسة نظام عالمي بديل

على عكس النظام الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، والخاضع إلى هيمنة مؤسسات صممتها الدول الأطلسية، تعكس هذه البنية الناشئة الحقائق الجغرافية والديموغرافية والاقتصادية للقرن الحادي والعشرين.

ستعيد أربعة تطورات محورية تشكيل النظام العالمي البديل في العقود المقبلة، وكلها تتسارع بفعل السياسات الأميركية الحالية:

- التعاون التكنولوجي: يتمثل التحول الأعمق في بروز أنظمة تكنولوجية موازية تتحدى هيمنة الغرب في المجال الرقمي. من خلال مبادرات مثل "الشراكة من أجل الثورة الصناعية الجديدة (بارتنير)، تبني الاقتصادات الناشئة الكبرى أطرا بديلة لحوكمة الذكاء الاصطناعي، والابتكار في الاقتصاد الدائري (المستند إلى إعادة التدوير)، والتنمية الصناعية، متعمدة تجاوز المؤسسات والمعايير الغربية.

.أ.ف.ب
صورة جماعية لوزراء الخارجية في ختام الاجتماع التمهدي للدول الأعضاء في منظمة شنغهاي، في تيانجين، 15 يوليو 2025

ولعل الأهم استراتيجيا هو صعود الصين لتصبح الطبقة الأساس لبنية الذكاء الاصطناعي العالمية. فالتطبيقات الصينية مفتوحة المصدر، بقيادة "ديب سيك" وشبكة من المنافسين المحليين، تتحول إلى البنية الأساس التي يُبنَى عليها التطوير الدولي للذكاء الاصطناعي. ويمثل ذلك انقلابا عميقا في علاقة الاعتماد التكنولوجي: بدلا من الاعتماد على منصات أميركية مثل "أوبن إيه آي" أو "غوغل"، باتت الدول النامية تصل إلى أحدث قدرات الذكاء الاصطناعي عبر بدائل صينية مفتوحة المصدر تعمل خارج الأطر التنظيمية والقيود الجيوسياسية الغربية.

- فك الارتباط التجاري بالدولار: تواجه العلاقات التجارية التقليدية القائمة على المعاملات بالدولار من ضمن نظام "سويفت" تحديات منهجية. إن مشروع "بريكس باي" الذي يستخدم تكنولوجيا سلسلة الكتل (بلوك تشين) لتجاوز التعاملات بالدولار، والمناقشات حول عملة رقمية مشتركة لدول "بريكس" قد تكون مدعومة بالذهب، ربما لا تزال بدائية تقنيا، لكنها تمثل مخططا لبنية مالية عالمية ناشئة.

- الإطار العسكري والأمني: يمثّل "الهيكل الإقليمي لمكافحة الإرهاب" التابع لمنظمة شنغهاي للتعاون الذي يتخذ من طشقند مقرا، أكثر من مجرد تنسيق مؤسسي لمكافحة الإرهاب. هو يجسد كذلك التدرج في بروز بنية أمنية بديلة تعمل باستقلال عن أطر الهيمنة الغربية مثل حلف شمال الأطلسي أو الاتفاقيات الأمنية الثنائية المبرمة مع واشنطن.

بالنسبة إلى الصين، تمثل العلاقات الاقتصادية مع الهند سوقا بديلة مع استمرار الضغوط الغربية على سلاسل الإمداد. تبلغ قيمة صادراتها إلى الهند 113 مليار دولار وتشكل منفذا حيويا للمنتجات الصينية في ظل تقلص الأسواق الأميركية أمامها

هذا التقارب الأمني بالغ الأهمية لأنه يشرعن التعاون العسكري بين دول تصنفها واشنطن من بين المنافسين الاستراتيجيين أو الخصوم. وتؤسس التدريبات المشتركة وتبادل المعلومات الاستخبارية والعمليات المنسقة تحت رعاية المنظمة لأنماط تعاون عسكري تتحول من تعاون تكتيكي إلى أساس مؤسسي لشراكات أمنية أوسع. وتكمن القيمة الاستراتيجية الحقيقية لهذا الإطار في إمكاناته على صعيد تطبيع ترتيبات أمنية بديلة تتحدى افتراض قيادة الغرب للحوكمة الأمنية العالمية.

.أ.ف.ب
اجتماع ثنائي على اليمين وزير الدفاع الصيني لي شانغ فو مع ووزير الدفاع الهندي راجناث سينغ، في نيودليهي 27 أبريل 2023

- إعادة تنظيم الطاقة: ربما يكون الأكثر حسما هو إعادة تنظيم تدفقات الطاقة على محاور جغرافية جديدة. فالتوجه الروسي نحو الأسواق الآسيوية، عبر آليات تسوية بالروبل واليوان والروبية، يؤسس أنظمة بديلة لتجارة الطاقة، محصنة من عقوبات "سويفت". وتُظهِر استثمارات الصين الخارجية في الطاقة الخضراء، التي تجاوزت 100 مليار دولار منذ عام 2023، كيف أن ثورة الطاقة تؤسس ترابطات اقتصادية جديدة.

الحسابات الهندية

تجسد رحلة مودي إلى تيانجين كيف تتعامل القوى الصاعدة مع العقبات حين يلجأ البلد المهيمن عالميا إلى سياسات أكثر أنانية للحفاظ على تفوقه الاقتصادي.

لا شيء يوضح براعة حسابات الهند الديبلوماسية أكثر من تقاربها مع الصين الذي يعزز مباشرة موقعها التفاوضي في مواجهة الإكراه الاقتصادي الأميركي. تتقن الهند استغلال استقلاليتها الاستراتيجية منذ عقود من الزمن، محافظة على توازن دقيق بين واشنطن وموسكو وبكين يتيح لها تعزيز مكاسبها وحماية مصالحها الأساسية.

من نافل القول أن دفء العلاقات الصينية الهندية، الذي تُوِّج بزيارة وزير الخارجية وانغ يي نيودلهي في أغسطس/آب وإبرام اتفاقيات مهمة في شأن إدارة الحدود، يمثل براعة تكتيكية رفيعة. فالتقارب يشكل ورقة ضغط على واشنطن، في إشارة إلى أن الضغط المفرط سيدفع الهند نحو التفاهم مع الخصم الاستراتيجي الأول لأميركا.

وتدرك بكين هذه الديناميكية بوضوح مماثل. إن مبادرات الهند عبارة عن مناورة براغماتية تأتي ردا على الضغط الأميركي، وليست إعادة تموضع استراتيجي بعيد الأجل. وتدرك كلا القوتين أن تنافسهما الجوهري، من الأمن إلى الاقتصاد، المعزز بجغرافيتهما المشتركة، سيظل قائما على الأرجح.

ومع ذلك، يخدم هذا التعاون التكتيكي مصالح البلدين الآنية تحديدا، لأنه مفهوم على هذا النحو. بالنسبة إلى الصين، تمثل العلاقات الاقتصادية الأوثق مع الهند سوقا بديلة حاسمة مع استمرار الضغوط الغربية على سلاسل الإمداد. تمثل صادراتها إلى الهند بقيمة 113 مليار دولار منفذا حيويا للمنتجات الصينية في ظل تقلص الأسواق الأميركية أمامها. وتشكل الهند بدورها ركنا أساسيا في توجه بكين الاستراتيجي نحو تعزيز شبكات التجارة في الجنوب العالمي.

يشكل اجتماع تيانجين تبلورا إضافيا لـ"إجماع الجنوب العالمي"، ومفاده القناعة بأن النظام الدولي يجب أن يعكس موازين القوى المعاصرة لا التاريخية

لكن في ضوء التوافق التكتيكي، يكمن تقارب استراتيجي أعمق يتجاوز الحسابات الراهنة. يشترك البلدان في مصلحة طبيعية تتلخص في نزع الاستقطاب عن شبكات التجارة العالمية وتقليل التعرض إلى تقلبات السياسات الأميركية.

وعلى الرغم من أن المصالحات القريبة الأجل بين إدارة ترمب ونيودلهي قد تؤسس لـ"شهور عسل"، تدرك الهند تماما، مثل الصين، أن الاعتماد على أنظمة تهيمن عليها الولايات المتحدة – من مدفوعات "سويفت"، والتجارة بالدولار، إلى البنية التحتية التكنولوجية – يولّد هشاشة استراتيجية لا يمكن أي قدر من حسن النية الثنائية أن يعالجها. قد يكون الدافع نحو السيادة الاقتصادية أكثر استدامة من الاعتبارات التكتيكية التي جمعت بين الصين والهند، فيحيل ما بدأ كتعاون تحت الضغط ركنا أساسيا في النظام المتعدد الأقطاب الناشئ.

نموذج تيانجين والجنوب العالمي

يشكل اجتماع تيانجين تبلورا إضافيا لـ"إجماع الجنوب العالمي" – ومفاده قناعة بأن النظام الدولي يجب أن يعكس موازين القوى المعاصرة لا التاريخية.

Shutterstock
مدينة تيانجين، الصين 21 أكتوبر 2023

علينا مواجهة حقيقة اقتصادية عالمية لا مفر منها: في عام 2050، تشير توقعات إلى أن الصين والهند والولايات المتحدة ستصبح أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم، بهذا الترتيب تحديدا وعلى أساس الناتج المحلي الإجمالي الاسمي.

ولا غرو أن تعزيز الروابط الاقتصادية بين الصين والهند – مهما كانت دوافعه تكتيكية – يمثل تحولا أساسيا في مركز ثقل الاقتصاد العالمي نحو آسيا. عندما تعمق الاقتصادات المرشحة لاحتلال المركزين الأول والثاني في ربع القرن المقبل من الزمن تكاملها، تتجاوز التداعيات العلاقات الثنائية لتعيد تشكيل الاقتصاد العالمي بأسره.

تضيء رحلة مودي إلى الصين احتمال قيام نظام متعدد الأقطاب جديد لم يعد الغرب هو مهندسه. هل سينشأ هذا النظام عبر التعاون أم المواجهة؟

من هذه الزاوية، تبدو مواجهات واشنطن المتزامنة مع القوتين الاقتصاديتين المستقبليتين مضرة استراتيجيا. لا تستطيع الولايات المتحدة احتواء الصين والهند معا من دون أن تعجل في انحدارها الذاتي.

وعلى خلاف المواجهة الثنائية القطبية في الحرب الباردة، يقوم النظام الناشئ المتعدد الأقطاب بحق، على تحالفات متغيرة تبعا للمصالح لا الانتماءات الأيديولوجية. فالهند تستورد في شكل ضخم منتجات تكنولوجية من الصين، بينما تحافظ على علاقات دفاعية مع الولايات المتحدة. وهكذا، ليس التجمع المستقبلي للجنوب العالمي "مواليا للغرب" ولا "معاديا للغرب"، بل هو ببساطة "غير غربي".

.أ.ف.ب
وزير الخارجية الهندي سوبرامنيام جاي شانكار، يدير اجتماعا لوزراء خارجية دول منظمة شنغهاي، في بينوليم، الهند 5 مايو 2023

تكشف سياسات ترمب الجمركية، على الرغم من أنها تظهر عزيمة الولايات المتحدة، عن حدود القوة القسرية في عالم يتجه تدريجيا إلى تراجع الهيمنة الأميركية. ذلك أن بروز مؤسسات موازية للتجارة والمال والتكنولوجيا والأمن يشير إلى أن اللحظة الأحادية القطب تنتهي لا بسبب انحدار أميركا، بل على الرغم من قوتها.

وبدلا من مقاومة هذا الانتقال بإجراءات قسرية متزايدة، تتطلب القيادة الحقيقية التكيف مع الواقع الجديد مع الحفاظ على المصالح الجوهرية. يدرك القادة المجتمعون في تيانجين هذه الديناميكية. والسؤال هو ما إذا كانت واشنطن ستدركها أيضا قبل أن يغلق باب الانتقال البنّاء إلى عالم متعدد الأقطاب.

في النهاية، تضيء رحلة مودي إلى الصين احتمال قيام نظام متعدد الأقطاب جديد لم يعد الغرب هو مهندسه. هل سينشأ هذا النظام عبر التعاون أم المواجهة؟ ستحدد الإجابة ملامح ما تبقى من هذا القرن. يجب أن تكون "لحظة تيانجين" تنبيها يستحق وقفة تأمل تاريخية.

font change

مقالات ذات صلة