الزراعة العربية... صمام الأمن الغذائي وركيزة الاقتصاد

مفاتيحها التمويل الميسر والاستثمار في نوعية الانتاج وفق أحدث أساليب الإدارة والتكنولوجيا

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
مزارعة مصرية تقطف أزهار الياسمين في حقل قرية شبرا في محافظة الغربية شمال مصر، 7 يوليو 2025

الزراعة العربية... صمام الأمن الغذائي وركيزة الاقتصاد

تُعد الزراعة من أقدم الأنشطة الاقتصادية التي مارسها الإنسان منذ فجر الحضارة. ويرجح مؤرخون أن جذورها تعود إلى نحو 11,500 عام، حين ظهرت في منطقة الشرق الأوسط. وقد ساهمت الزراعة في ترسيخ الاستقرار البشري في مناطق جغرافية محددة، حيث نشط السكان في زراعة الخضر والفواكه والأشجار المثمرة.

تشير الدراسات الى أن الفراعنة في مصر، والبابليين والسومريين في حضارة وادي الرافدين، طوروا أساليبهم الزراعية التي أصبحت أهم نشاط اقتصادي في تلك الأزمنة. ففي بلاد الرافدين الممتدة بين نهري دجلة والفرات، وتشمل اليوم أجزاء من تركيا وسوريا والعراق، توافرت المياه والأراضي الخصبة، مما مكّن العراق من امتلاك قدرات زراعية هائلة، حتى أطلق العرب عليه لقب "أرض السواد" لكثرة زرعه وخضرته.

وقد برع البابليون في بناء السدود وحفر القنوات وإنشاء الخزانات لتنظيم مياه الري، بينما مثّلت الحبوب كالقمح والشعير والسمسم، إلى جانب التمور، أبرز محاصيلهم الزراعية.

الزراعة في العصر الحديث

في الانتقال من التاريخ القديم إلى القرن العشرين، يتضح أن التطور في التقنيات والأنماط الزراعية ظل محدودا. تعتبر مصر من أهم الدول العربية التي اعتمدت على الاقتصاد الزراعي لزمن طويل حتى منتصف القرن العشرين. وقد برع المصريون في ابتكار أنظمة للري ارتبطت بسخاء النيل، مما ساهم في تعزيز القدرات الإنتاجية الزراعية.

أدت قوانين الإصلاح الزراعي التي استهدفت الملكيات الزراعية الخاصة، إلى تفتيت الأراضي وانخفاض مستويات الإنتاج. وزاد الأمر تعقيدا مع تحويل مساحات واسعة من الأراضي الزراعية إلى مشاريع عمرانية استثمارية أو سكنية

دفع ذلك الحكومات المصرية إلى بناء السدود، فشيدت سد أسوان أو ما عرف بخزان أسوان، في جنوب البلاد خلال الفترة 1899 إلى 1906.

كان الهدف من السد أو الخزان هو حجز المياه عند حدوث فيضانات والتحكم بالمياه لري الحقول. وخلال القرن العشرين، برز القطن كأحد أهم المحاصيل الزراعية في مصر وكان مصدرا لإيرادات التصدير، واعتبر القطن المصري من أفضل الأنواع في العالم ويتمتع بجودة عالية. ذلك فضلا عن محاصيل غذائية من منتجات الزراعة في مصر ومنها الأرز والبطاطا، والبندورة، والذرة والقمح.

تأثيرات سلبيات السياسة في الزراعة

تعرض القطاع الزراعي في العديد من الدول العربية لتحولات عميقة خلال عقود النصف الثاني من القرن العشرين، بسبب المتغيرات السياسية التي شهدتها تلك المرحلة. فقد أدت قوانين الإصلاح الزراعي التي استهدفت الملكيات الزراعية الخاصة، إلى تفتيت الأراضي وانخفاض مستويات الإنتاج. وزاد الأمر تعقيدا مع تحويل مساحات واسعة من الأراضي الزراعية إلى مشاريع عمرانية استثمارية أو سكنية، مما ساهم في تراجع الرقعة المزروعة وتراجع مكانة الزراعة في الاقتصاد.

أ.ف.ب.

إلى جانب ذلك، شهدت الدول العربية موجات واسعة من انتقال الفلاحين إلى المدن بحثا عن فرص عمل في القطاعات الخدمية والحرفية، فيما اتجه عدد كبير منهم إلى الهجرة نحو دول الخليج، خصوصا السعودية والكويت والإمارات، للعمل في الإنشاءات أو المؤسسات الخدمية أو حتى في المزارع هناك.

تتراوح مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية من 5 إلى 15 في المئة، وفقا للتقارير الاقتصادية

غير أن الزراعة في بلدان مثل العراق وسوريا ومصر والسودان واجهت أزمات هيكلية متفاقمة، من أبرزها النمو السكاني المتسارع الذي ضاعف الطلب على المواد الغذائية في وقت لم تعد فيه هذه الدول قادرة على تلبية احتياجات سكانها، فتحولت من دول مصدّرة للغذاء إلى دول تعتمد بشكل متزايد على الاستيراد. ويُضاف إلى ذلك تحديات المناخ والتصحر، فضلا عن عزوف المستثمرين عن ضخ رؤوس أموالهم في القطاع الزراعي.

رهانات الأمن الغذائي العربي

تتراوح مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بين 5 و 15 في المئة، وفقا للتقارير الاقتصادية. على سبيل المثل، تقدر مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي في مصر بنحو 13,7 في المئة عام 2024 وفقا لتقديرات البنك الدولي. ويتوقع أن تسجل مصر ناتجا محليا إجماليا بنحو 347 مليار دولار في عام 2025، تبلغ حصة الزراعة منه نحو 41 مليار دولار.

أ.ف.ب.
مزارعة مصرية تقطف أزهار الياسمين في حقل قرية شبرا في محافظة الغربية شمال مصر، 7 يوليو 2025

أما صادرات مصر الزراعية فقد بلغت 4,6 مليارات دولار في عام 2024، في حين استوردت مصر قمحا وذرة وفول الصويا بما قيمته 8,6 مليارات دولار في العام نفسه. إذا، هناك فجوة تعكس عدم قدرة القطاع الزراعي على توفير الاحتياجات الفعلية للطلب المحلي على المنتجات الزراعية.

الزراعة في العراق 3.4 في المئة من الناتج

في العراق، لا تتجاوز نسبة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي 3.4 في المئة في عام 2024 وفقا لأرقام للبنك الدولي، وبما أن الناتج المحلي الإجمالي في العراق يبلغ نحو 279.6 مليار دولار، فإن قيمة مساهمة الزراعة لا تتعدى 9.5 مليارات دولار.

ويعتبر النموذج المغربي من أفضل نماذج القطاع الزراعي في العالم العربي، إذ بلغت مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي 10 في المئة وفقا لأحدث إحصاءات صادرة عن البنك الدولي عام 2024. كما وصلت قيمة الصادرات الزراعية المغربية، التي تتجه في معظمها إلى الأسواق الأوروبية، إلى نحو 3.8 مليارات دولار في العام نفسه.

تمكنت السعودية من خلال برامج متقنة من الارتقاء بمساهمة القطاع الزراعي، مدعومة بالقروض الميسرة وتشجيع القطاع الخاص، من لعب دور مهم في تنمية الزراعة والارتقاء بالإنتاج لمختلف السلع الغذائية وتطوير صناعاتها التحويلية

تشمل الصادرات الزراعية المغربية الحمضيات والخضروات ومنتجات غذائية شبه مصنعة ومنسوجات. وتشير تقارير للبنك الدولي إلى أن نحو 30 في المئة من القوة العاملة في المغرب تعمل لحساب القطاع الزراعي في مختلف نشاطاته. ويعتمد المغرب استراتيجيا جديدة للقطاع الزراعي أطلق عليها "الجيل الأخضر" لتعزيز الانتاجية الزراعية وترشيد استخدام المياه وتحفيز الاستثمار في القطاع.

ازدهار الزراعة في السعودية

من اللافت تزايد اهتمام دول الخليج بالزراعة على الرغم من شح المياه وقساوة المناخ ومشكلات التربة. يُعدّ النموذج السعودي في هذا المجال من أبرز التجارب، فوفق بيانات عام 2022، بلغت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي نحو 26.6  مليار دولار مسجلا قفزة تاريخية، مقارنة بالعام السابق.

وتظهر أرقام 2024 تطورا ملموسا، حيث بلغت مساهمة الزراعة للمرة الأولى الـ114 مليار ريال سعودي (30.4 مليار دولار)، في رقم قياسي يعكس التوسع الكبير في استثمارات القطاع ضمن استراتيجيا رؤية 2030.

أ.ف.ب.
مزارعون يقطفون القهوة في مزارع جازان، جنوب السعودية 26 يناير 2022

طورت المملكة العربية السعودية مناطق زراعية عديدة وأقامت مشاريع للري في بيئات صحراوية، من أبرزها الرياض والجوف وتبوك والقصيم وحائل والإحساء والقطيف وعسير وجازان ونجران، إضافة الى المدينة المنورة ومكة المكرمة، والحدود الشمالية. تهدف هذه المشاريع إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، وتعزيز قدرات تصدير المواد الغذائية. تشمل أهم الصادرات حاليا القمح والتمور ومنتجات الألبان والبيض والأسماك والدواجن والفواكه والخضروات، فضلا عن الزهور، مما يعكس تحوّلات نوعية في بنية الاقتصاد الوطني.

ودأبت المملكة كل عام على استضافة أكبر مهرجان للتمور في العالم بمدينة بريدة في القصيم، حيث يُقام خلال موسم الحصاد السنوي للتمور من منتصف أغسطس/آب حتى نهاية أكتوبر. ويتوافد إليه المزارعون والتجار وكبرى شركات القطاع عربياً وعالمياً، كما يقصده المهتمون والسياح للمشاركة في الحدث والتعرف على أكثر من 35 نوعاً من التمور.  

لقد تمكنت السعودية من خلال برامج متقنة من الارتقاء بمساهمة القطاع الزراعي، مدعومة بالقروض الميسرة وتشجيع القطاع الخاص، من لعب دور مهم في تنمية الزراعة والارتقاء بالإنتاج لمختلف السلع الغذائية وتطوير صناعاتها التحويلية.

تشير توقعات الى احتمال ارتفاع مساهمة الزراعة إلى أكثر من 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عدد من الدول العربية

وتشير أحدث البيانات الى وجود 26 مليون شجرة في السعودية، منها 18 مليون شجرة مثمرة، تنتج 600 ألف طن من المحاصيل، ويبلغ عدد أشجار النخيل 30 مليون نخلة تنتج ما يفوق 1,5 مليون طن من التمور.

تحديات الثروة الاستراتيجية

لا شك أن لدى الدول العربية إمكانات واسعة لتطوير القطاع الزراعي وتعزيز مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي. وذلك اعتمادا على استراتيجيا متقنة تهدف لإعادة الاعتبار الى الزراعة وإصلاح الأراضي وإعادة النظر في القوانين الناظمة للملكية الزراعية وتعزيز دور القطاع الخاص، وتعزيز معاهد للتدريب على أحدث الأساليب الزراعية، واختيار المحاصيل الملائمة لكل بيئة.

شادلي علاء بن إبراهيم
بستان زيتون في سليانة، تونس وسط معاناة المزارع من الجفاف ونقض المياه، 10 مايو 2024

ولا بد من توفير التمويل الميسر للزراعة وتعزيز الاستثمارات، الكفيلة بتطوير هذا القطاع بما يساهم في تحويله إلى مصدر رئيس للصادرات الغذائية، سواء بشكل مباشر أو عبر الصناعات التحويلية.

لقد أُهمل هذا القطاع لفترة طويلة استمرت لعقود طويلة، خصوصا في دول عربية منتجة مثل مصر وسوريا والعراق والسودان، وحان الوقت لإعادة الاعتبار للقطاع وتأهيله وفق أحدث التقنيات وأساليب الادارة في الدول المتقدمة. ومع مضاعفة الاهتمام والدعم، قد نشهد خلال السنوات المقبلة ارتفاع مساهمة الزراعة إلى أكثر من 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عدد من الدول العربية.

font change