هذه أبرز أفكار والد زهران ممداني عن الإسلام والإرهاب وأميركا والاستعمار

عدد من مؤلفاته ترجم إلى العربية

Axel Rangel García
Axel Rangel García

هذه أبرز أفكار والد زهران ممداني عن الإسلام والإرهاب وأميركا والاستعمار

يعد محمود ممداني، والد السياسي الأميركي زهران ممداني، الذي صنع التاريخ قبل أيام، بكونه أول مسلم يفوز بمنصب عمدة نيويورك، من أبرز أساتذة علم الاجتماع السياسي الذين اهتموا بدراسة المجتمع الأفريقي وما بعد الاستعمار بشكل خاص.

ولد في الهند بمدينة بومباي 1946 وانتقل به والده إلى أوغندا ليدرس في جامعة مكريري إحدى أشهر الجامعات الأفريقية، ويتخصص في علوم الأنثروبولوجيا والسياسة، حصل على الليسانس في العلوم السياسية من جامعة بطرسبورغ عام 1967 وعلى الماجستير في التنمية السياسية والاقتصادية من كلية فيلدشر للقانون والديبلوماسية عام 1968، ثم حصل على الدكتوراه في علم السياسة من جامعة هارفرد عام 1974، انتقل بعد ذلك للتدريس بجامعة دار السلام بتنزانيا ويؤسس هناك مع الأستاذ حلمي شعراوي "الجمعية الأفريقية للعلوم السياسة" برفقة عدد من الشباب الجامعيين الواعدين. كتب ممداني وقدم للدراسات الاجتماعية والسياسية الأفريقية عددا من الكتب المهمة التي تناولت العلاقة بين المجتمع والسلطة وآثار الاستعمار على المجتمع الأفريقي بشكل خاص، ثم انتقل إلى دراسة الحالة الأميركية على اتساعها. نستعرض هنا ثلاثة من مؤلفاته التي ترجمت سابقا إلى العربية.

"المسلم الصالح والمسلم الطالح": أميركا وصناعة الحرب الباردة وجذور الإرهاب

في مقدمة كتابه هذا الصادر عام 2004 (صدر بالعربية عام 2009 عن المركز القومي للترجمة)، يشير ممداني إلى أنه كان مدفوعا لتلك الدراسة بشكل خاص بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 وملاحظته أن الكثير من الأميركيين يذهبون إلى المكتبات لشراء القرآن على أمل التعرف الى تفكير "قراصنة الحادي عشر من سبتمبر" في الوقت الذي لم يجد لدى أي من الشعوب التي هاجمتها أميركا اهتمام مقابل بقراءة الإنجيل مثلا لفهم عقلية ودوافع رئيس الولايات المتحدة الأميركية.

يلاحظ ممداني أن الفارق بين الموقفين في البداية هو موقف ثقافي في المقام الأول، ولذلك هو يقدم في هذا الكتاب رؤية أميركا للشعوب العربية والإسلامية والموقف من الإسلام السياسي، ويضع في المقدمة عددا من الملاحظات أهمها أنه من الخطأ تعريف الإسلام أو المسيحية بالإرهاب، إذ يرى أن تضمين الدين في السياسة ليس بالضرورة رجعيا ولا تقدميا أيضا، ولكنه مكون ثقافي موجود في المجتمع يجب فهمه والتعامل معه، كما يرى ضرورة كبح القوة الطاغية لأميركا، بل ومحاسبتها باعتبارها قوة لا نظير لها في العالم المعاصر، وأن تلك القوة المفرطة تؤدي بالضرورة إلى تقويض مساعي الدفاع عن حقوق الإنسان في ما يعرف بدول العالم الثالث، كما يشير إلى ضرورة أن تكون دول العالم العربي (والشرق الأوسط) يقظة لمحاولات أميركا جرها إلى نسخة أخرى من الحرب الباردة، تلك التي دفعت الشعوب ثمنها غاليا بعسكرة الدول وضرب الموارد الاقتصادية.

من الخطأ ربط الإسلام أو المسيحية بالإرهاب، إذ أن تضمين الدين في السياسة ليس بالضرورة رجعيا ولا تقدميا

يعود ممداني إلى تأصيل أفكار العنف في الدول والمجتمعات منذ الحداثة الفرنسية، حيث يرى أن الحساسية السياسية الحديثة ترى في العنف ضرورة للتقدم التاريخي، ويعود بنا إلى التزامن التاريخي عام 1492 بين قيام "الأمة المسيحية" في إسبانيا التي طردت كل من عاداها وأقامت محاكم التفتيش، وبداية استكشاف أميركا مع الرحالة كولومبس، لتمارس أول إيادة جماعية ضد سكان أصليين في العصر الحديث، كما يعرج على ممارسات أميركا العنيفة التي أدت إلى عدد من الهزائم عبر تاريخها، فيتنام 1975 مثلا، ثم يركز بعد ذلك على مفهوم "المسلم الصالح والطالح" وفقا للإدارة الأميركية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إذ يرى أن الحكم على المسلم بالصلاح يتعلق بهويته السياسية وليس الثقافية أو الدينية، فالمسلم الصالح سيسعى مباشرة إلى تبرئة نفسه من الاتهام بالإرهاب ويدعم مواقف وتصرفات تلك الإدارةـ والطالح بلا شك هو المسؤول عن ذلك الإرهاب ويجب مهاجمته.

غلاف كتاب "المسلم الصالح والمسلم الطالح"

ويناقش ممداني "خطاب الثقافة" الغربي الذي يفترض أن لكل ثقافة جوهرا محسوسا يحددها، ويتم تفسير السياسة على أساس هذا الجوهر، وبالتالي فقد حدد خطاب السياسة عملية ممارسة الإرهاب بعد 11 سبتمبر على أنها "عملية إسلامية"، وقدم الإرهاب الإسلامي باعتباره وصفا لتلك الأحداث الإجرامية، ويقارن في ذلك بين موقف أميركا من الأفارقة في ما سمي بالحرب الباردة، على اعتبار أنهم عاجزون عن مواكبة الحداثة، في حين يتم التعامل مع المسلمين باعتبارهم مقاومين لهذه الحداثة أصلا، وبالتالي يكون في ذلك ما يبرر التعامل العنيف معهم ومحاربتهم بشتى الوسائل.

REUTERS

لا يقتصر حديث ممداني على تفسير الخطاب الأميركي المعاصر، بل يعود إلى مركزية الثقافة الغربية وطرائقها في مواجهة المخالفين، سواء سياسيا أو فكريا منذ زمن الحروب الصليبية التي كانت تهدف في الأساس إلى استعمار دول الشرق، مستشهدا بعدد من الدراسات، مثل دراسة توماز ماستناك عن الحروب الصليبية، ثم ينتقل إلى الحديث عن الأصولية الإسلامية وعلاقتها بالحداثة وكيف ربطت بالإرهاب، فيما يجب تمييزها كظاهرة دينية عن تلك التطورات السياسية المختلفة، كما يفرد فصلا للإصلاحيين الإسلاميين منذ مطلع القرن العشرين، فيتحدث عن رحلة جمال الدين الأفغاني ودعوته الفكرية التي تلقفها تلاميذ في مختلف دول العالم.

لا يقتصر حديث ممداني على تفسير الخطاب الأميركي المعاصر، بل يعود إلى مركزية الثقافة الغربية وطرائقها في مواجهة المخالفين، سواء سياسيا أو فكريا منذ زمن الحروب الصليبية

ينتقل ممداني إلى الحديث عن تأثير الحرب الباردة بعد حرب الهند الصينية فيتحدث عن تجربة أميركا القاسية في حرب فيتنام، والحرب بالوكالة في لاوس، فيستعرض محطات تلك الحرب المختلفة،  وكيف لجأت الولايات المتحدة بعد ذلك إلى تشكيل جيش سري من 30 ألف فلاح لمحاربة الشيوعيين في لاوس، وكيف أدى ذلك إلى توسيع تجارة الأفيون واستخدمت في ذلك أموال المخابرات والمعونات الأميركية.

والأمر يختلف في ما بعد عندما تدخلت أميركا في الكونغو  عشية الاستقلال الأفريقي لمنع صعود الطبقة الوطنية المناضلة، وذلك بالدفع بقوات من المرتزقة، الذين وصل عددهم في 1964 إلى نحو ألف شخص، وكانت تجربة صعبة وقاسية على جميع الصعد، كما يتحدث بعد ذلك عن دعم أميركا للإرهاب في أفريقيا من خلال دعم حركة "رينامو" في موزمبيق و"يونيتا" في أنغولا، ويتناول ممداني تاريخ الحركتين وتحولاتهما السياسية، وكيف انتهى الأمر بذلك النوع من الإرهاب السياسي الذي استهدف الحياة المدنية في مجالاتها المختلفة.

ANGELA WEISS / AFP
زهران ممداني يحتفل مع زوجته راما دواجـي ووالديه بعد فوزه برئاسة بلدية نيويورك، 4 نوفمبر 2025

يتطرق الكتاب إلى أفغانستان باعتبارها ذروة الحرب الباردة، حيث كانت بداية دعم الولايات المتحدة للإسلام السياسي في مختلف مناطق العالم، من إندونيسيا إلى باكستان حتى مصر حيث دعمت الإخوان المسلمين في مواجهة عبد الناصر، بل وحاولت إسرائيل أن تجعل من "حماس" نموذجا تدعمه في مواجهة منظمة التحرير الفلسطينية، لكن الأحداث أثبتت فشل ذلك في ما بعد.

ويتناول ممداني العدوان الصريح الذي انتهجته أمريكا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، سواء في العراق أو أفغانستان، وكيف أودى ذلك بأرواح الآلاف من الأبرياء، وحقق لها المزيد من فرض نظام إقليمي جديد على المنطقة العربية.

هكذا يبدو هذا الكتاب قراءة تاريخية واجتماعية مهمة لمحطات مختلفة من تاريخ المنطقة، ومحاولات الولايات المتحدة طوال الوقت إلى فرض السيطرة والهيمنة بشتى الطرق، لذا تكمن أهمية هذا الكتاب كونه لا يزال يتماس بشدة مع القضايا التي تعيشها المجتمعات العربية والمسلمة في هذه اللحظة، حيث يؤكد ممداني أن السياسة الاستعمارية الأميركية وليس الدين هو ما يشعل الحروب، وأن فهمنا للعالم لن يكون صحيحا ما لم نفكك تلك السرديات.  

"المواطن والرعية"

بعد أن عرف القارئ العربي محمود ممداني ودراساته في ما يخص "الإسلاموفوبيا" على وجه التحديد، كان ممداني نفسه حريصا على أن يترجم كتابه "المواطن والرعية" (الصادر عام 1996) إلى العربية عام 2018، ذلك  أنه من أبرز الدراسات التي تتناول أفريقيا بعد الاستعمار، فأشار إلى صديقه حلمي شعراوي بذلك وقدمه الى "المركز القومي للترجمة" في مصر. ويبدو في الكتاب ذلك التأصيل المبكر لتوصيف حالة الدول الأفريقية بعد الاستعمار، والحديث عن حدود العلاقة بين المواطنين والدولة.

غلاف كتاب "المواطن والرعية"

يبدأ الكتاب بتحديد ما سماه المأزق الأفريقي، وينتقد بشدة تلك الدراسات الاجتماعية المختلفة التي تعاملت مع الدول الأقريقية باعتبارها "مجتمع اللادولة"، وكيف أنها كانت تنحاز الى جانب دون الآخر، مما يجعلها تفشل في قراءة المشكلة من أبعادها المختلفة.

يؤكد ممداني أن السياسة الاستعمارية الأميركية وليس الدين هو ما يشعل الحروب، وأن فهمنا للعالم لن يكون صحيحا ما لم نفكك تلك السرديات

ويقدم ممداني رؤيته لأنظمة الحكم الاستعماري وكيف كانت تسعى إلى ما سماه "الاستبداد المركزي" في المناطق الحضرية القريبة منها و"الاستبداد غير المركزي " في مناطق ريفية أو بعيدة من حكمها المباشر، وذلك من خلال استخدام القوى المتاحة في تلك المناطق، ويشير إلى أن تلك الطرق من محاولات فرض السيطرة والهيمنة أدت في النهاية إلى التنافر بين تلك الجماعات، وتحول الأمر من الاستبداد اللامركزي إلى الحكم الذاتي غير المباشر مما أدى بعد ذلك إلى الاستقلال.

يتحدث بعد ذلك عن الأدوار المختلفة التي ظهرت في بعض القبائل الأفريقية في السعي إلى ترسيخ ثقافة أهلية مختلفة، واعتماد بعض الإدارات الاستعمارية على توجيه مصادر الاستبداد في الثقافات المحلية، واستغلال الإدارة الفرنسية مثلا للجهادية الإسلامية حتى يتم استيعابها بالكامل، وكيف كان يتم تفعيل الآليات الاقتصادية لربط عدد من المجتمعات الأفريقية بالسوق الرأسمالية الاستعمارية.

هكذا يقرأ ممداني المجتمع الأفريقي في ما بعد الاستعمار لينظر إلى تلك التحولات التي حدثت في بنتيه وتركيبه: هل كانت متجاوزة بالفعل للاستعمار أم أنها أعادت إنتاجه من جديد، حيث يرى أن هناك دولا تتبنى المظهر الوطني المحافظ الذي يشدد على الجانب القومي مما يؤدي إلى إظهار عدد من التناقضات والاختلافات القبلية والعرقية، أما الدول الراديكالية أو الأصولية فإنها لم تقم بما يصلح الدولة أو السلطة الأهلية مما أدى بالتالي إلى مركزية السلطة والاستبداد بالحكم.

غلاف كتاب "لا مستوطن، لا مواطن"

"لا مستوطن ولا مواطن"

 في أحدث كتبه "لا مستوطن ولا مواطن" (2020) الصادرة ترجمته إلى العربية عام 2023 عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر"، يواصل ممداني البحث في العلاقة بين الدولة والمواطنين، إلا أنه في هذا الكتاب يركز على دراسة جذور العنف في مجتمعات ما بعد الاستعمار، ويشير بوضوح إلى الآثار السلبية التي تتركها الدول الاستعمارية على المجتمعات، وكيف أنها تساهم في صناعة أقليات لها مصالح تدفعها إلى استخدام العنف للحفاظ عليها.

ويرى ممداني أن نشأة الدولة الحديثة ارتبطت إلى حد كبير بالعنف المسلح بل وبالتطهير العرقي أيضا، ويشير إلى تشكل الدولة في الولايات المتحدة وكيف أنها تعتبر أول نموذج لدولة استعمارية حديثة، حيث أبادت السكان الأصليين وهو ما يعد أول إبادة جماعية في العصر الحديث تركت آثارها على العالم كله، ويتحدث بعد ذلك عما قام به هتلر في ألمانيا من إبادة لليهود مما جعلها تعترف بقيام دولة إسرائيل كملاذ للأقلية اليهودية، كما يتحدث عن الفصل العنصري في دولة جنوب أفريقيا والصراع الذي نشأ بين المستوطنين والمواطنين، وكيف أن المجتمع المدني هناك تعامل مع الفصل العنصري ليس بوصفه قضية جنائية بل بوصفه قضية سياسية أيضا، وكان النضال المناهض للفصل العنصري يسعى الى تأسيس نظام سياسي جديد يمكن الجميع المشاركة فيه، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى إنهاء الاستعمار وتفكيكه.


يشير ممداني بوضوح إلى الآثار السلبية التي تتركها الدول الاستعمارية على المجتمعات، وكيف أنها تساهم في صناعة أقليات لها مصالح تدفعها إلى استخدام العنف

ويتناول ممداني حالة السودان في سياق حديثه عن تشكيل الهوية العربية ثم إعادة إنتاجها من أجل تكوين غالبية وطنية، وكيف أدى ذلك بالتالي إلى انفصال الجنوب الذي يرجعه إلى عواقب الاستعمار البريطاني الذي سيس الحدود عرقيا وأعاد تشكيل الاختلاف الثقافي باعتباره اختلافا قبليا، ولعل الحالة السودانية يمكن أن تكون مؤشرا قويا الى قدرة المستعمر على خلق أقليات داخل الدولة الواحدة معتمدا على الفروق الثقافية بين الجماعات مما يخلق حالة تمايز بين المواطنين.

غلاف كتاب "سمّ بطيء: عيدي أمين، يويري موسيفيني، وتشكّل الدولة الأوغندية"

بعد ذلك، يركز ممداني على السؤال الأكثر أهمية وحساسية في الكتاب، وهو السؤال الإسرائيلي الفلسطيني. يعتبر ممداني أن الصهيونية بشكلها الحالي تطبيق للحداثة الأوروبية في ظروف استعمارية، كما يرى أن اليهود العرب في هذا الإطار يعدون تحديا للصهيونية التي تريد الترويج لفكرة أن الهوية العربية واليهودية لا تلتقيان وأن إحداهما معادية للأخرى.

بعد ذلك يناقش نظريا موضوع حل الدولتين وضرورة تفكيك الصهيونية حتى تصبح إسرائيل دولة غير قومية لكل مواطنيها، وهنا يرى ممداني أن الانتفاضتين الفلسطينية الأولى والثانية كانتا محاولة من الفلسطينيين لفرض وجودهم في الدولة الإسرائيلية.  

هكذا يمثل الكتاب محاولة لعرض ومناقشة أسئلة تتعلق بالمواطنة والدول المستعمرة، تتجلى بوضوح فيه محاولة ممداني تعميم التجربة الأفريقية على دول أخرى، كما يعرض من جهة أخرى أثر الدول المستعمرة على المواطنين ودورها في إنشاء قوميات متصارعة طوال الوقت.

font change

مقالات ذات صلة