قطاع المصارف درة الاقتصاد الخليجي

كيف تطور العمل المصرفي ودوره الرائد في التمويل والإصلاح الاقتصادي

Shutterstock
Shutterstock
مركز الملك عبد الله المالي (KAFD) في الرياض

قطاع المصارف درة الاقتصاد الخليجي

كانت بدايات العمل المصرفي في دول الخليج متواضعة وقبله الصرافات، كان لها دور هام في تطوير أعمال مؤسسات القطاع الخاص وتعزيزها في هذه الدول في مختلف النشاطات.

استخدمت دول الخليج العديد من العملات العائدة للدول التي كانت لها علاقات تجارية معها ومنها الليرة الذهبية العثمانية والقِران الإيراني والبرغشي الزنجباري والبيزة العمانية والريال النمساوي ثم الجنيه الاسترليني، وبشكل أوسع في القرنين التاسع عشر والعشرين، الروبية الهندية. لم تتأسس مصارف في البدايات ولكن هناك من عمل في الصرافة ومول التجار وأصحاب الأعمال أو تولى المحافظة على المدخرات وتسوية المعاملات مثل دفع قيمة البضائع والسلع المستوردة من دول مصدرة.

خطى مصرفية ثابتة

بدأت المصارف تعمل في دول الخليج في القرن العشرين، وكانت البحرين السباقة في العمل المصرفي حيث افتتح فرع البنك الشرقي المحدود، ويعرف حالياً ببنك "ستاندرد تشارترد"، في المنامة في عام 1930. سبق ذلك قيام البنك الامبراطوري البريطاني الإيراني بفتح مكتب له في عام 1900 لكنه لم يستمر طويلاً بعد أن ووجه بموقف عدائي من الصيارفة المحليين.

للمزيد إقرأ: مجلس التعاون الخليجي... ضرورة التعاون الاقتصادي

أكدت تطورات النشاطات الاقتصادية، حتى قبل بداية عصر النفط، أهمية وجود نظام مصرفي يدعمها، لذلك توالت عمليات فتح فروع لمصارف أجنبية في هذه الدول قبل أن تتمكن نخبها الاقتصادية من تأسيس مصارف وطنية. شهدت السعودية تأسيس الأعمال المصرفية، وإن كانت محدودة ومتواضعة، منذ الحرب العالمية الأولى، حيث قامت مؤسسة بريطانية، "جيلاتي وهانكي" بتأسيس شركة صغيرة للصيرفة، ثم تأسس مصرف تحت اسم الجمعية التجارية الهولندية في جدة. كانت أهم أعمال هذه المؤسسات تزويد الحجاج، خصوصاً القادمين من الدول الآسيوية مثل أندونسيا، باحتياجاتهم من النقود. لكن العمل المصرفي في السعودية أخذ زخماً في أربعينات القرن الماضي عندما افتتح البنك الفرنسي "الهند الصينية" (Banque de L’Indochine) فرعاً في جدة في عام 1948 ثم تأسست شركة الكعكي وابن محفوظ لتتولى تمويل العقود الحكومية والتجارية.

كانت السعودية سباقة في تنظيم العمل المصرفي، حيث أصدرت قانون مؤسسة النقد السعودي (SAMA) في عام 1951 لتتولى إصدار التراخيص المصرفية والقيام بدور الإشراف على الأعمال المصرفية بشكل متكامل. سبق ذلك قيام مصارف أجنبية بافتتاح فروع لها مثل البنك البريطاني للشرق الأوسط والبنك الأهلي الباكستاني، ثم تحول شركة الصرافة (الكعكي وابن محفوظ) إلى مصرف تحت مسمى البنك الأهلي التجاري، وجرت هذه التطورات بين عام 1949 وبداية خمسينات القرن العشرين.

للمزيد إقرأ: منهجية جديدة للاستثمار الأجنبي في السعودية

كانت السعودية سباقة في تنظيم العمل المصرفي، حيث أصدرت قانون مؤسسة النقد السعودي (SAMA) في عام 1951 لتتولى إصدار التراخيص المصرفية

في الكويت كان التجار يعملون بين البصرة والهند وشرق أفريقيا قبل بداية عصر النفط، كانت بحاجة إلى تنظيم عمليات التسوية للتبادل السلعي وبالتالي، إلى مؤسسات تمويلية. لذلك، افتتح فرع للبنك الامبراطوري الإيراني في عام 1941، وقد تغير اسم المصرف لاحقاً ليصبح البنك البريطاني للشرق الأوسط (BBME). سرعان ما تطورت الأمور، حيث تأسس بنك الكويت الوطني من قبل مساهمين  كويتيين في عام 1952. وقد شهدت دول الخليج الأخرى مثل الإمارات وعمان وقطر إنجازات مشابهة خلال عقود القرن العشرين.

shutterstock
ساحة الصفاة الكويتية، في مدينة العاصمة الكويتية - الكويت، 29 أكتوبر 2023

تعزيز القطاع الخاص

بات الآن القطاع المصرفي في مختلف دول الخليج أهم القطاعات المملوكة من القطاع الخاص والتي تساهم في خلق فرص العمل للمواطنين بعد أن كانت تعتمد في سنواتها الأولى على الوافدين، خصوصاً الهنود، الذين أتقنوا العمل المصرفي وتعلموها في بلدانهم. وأصبحت الأعمال المصرفية الآن تخضع لرقابة صارمة من البنوك المركزية الوطنية وتتقيد بأنظمة مصرفية دولية مثل نظام "بازل" الذي يحدد كفاءة رأس المال وقياسه نسبة لحجم الأصول المصرفية.

اعتمدت الأنظمة الاقتصادية في دول الخليج منذ بداية تحصيل ريع النفط على دور مهيمن للدولة، وأصبحت القطاعات الاقتصادية الحيوية مملوكة من قبل الدولة ولم تكن تعتمد على تمويلات من المصارف بدرجة كبيرة. ظلت المصارف تعتمد على تمويل مؤسسات القطاع الخاص العقارية والتجارية والصناعية والتسهيلات الائتمانية الخاصة بالأفراد ومنها التمويلات الاستهلاكية وتمويلات اقتناء السكن الخاص أو تمويل التعامل بالأوراق المالية.

لا شك أن إحداث تحول كبير وانتقال الأعمال إلى القطاع الخاص وتحرير ملكية الدولة في المرافق والمنشآت الكبيرة سيدعم نظام الائتمان بشكل متميز. هناك دور رئيسي للامكانات المالية المتاحة لدى المصارف والاستفادة منها في عمليات نقل الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص، ومن ثم تمويل مختلف الأنشطة الاقتصادية في هذه الدول. تملك المصارف الخليجية أصولاً كبيرةً قدرها مركز الاحصاء الخليجي بنحو 2,96 تريليون دولار في نهاية عام 2022 تتوزع كالتآلي: 966 مليار دولار للسعودية، 999 مليار دولار للإمارات، 277 مليار دولار للكويت، 523 مليار دولار لقطر، 102 مليار دولار للبحرين، و101 مليار دولار لعمان.

لا شك أن إحداث تحول كبير وانتقال الأعمال إلى القطاع الخاص وتحرير ملكية الدولة في المرافق والمنشآت الكبيرة سيدعم نظام الائتمان بشكل متميز

الصيرفة الاسلامية

شهدت دول الخليج في أواخر سبعينات القرن الماضي تطور أنظمة الإئتمان الإسلامي الذي أصبح يضم العديد من المصارف الكبيرة والتي تملك أصولاً بمئات المليارات من الدولارات. هذه المصارف اعتمدت تمويلات محددة بشروط الشريعة الإسلامية واستعانت بلجان شرعية لتأكيد سلامة أعمالها المصرفية. تملك المصارف الإسلامية قاعدة واسعة من المتعاملين وتوسعت أعمالها في مختلف الدول العربية والآسيوية وفي دول الغرب. لا شك أن اتساع قاعدة الأثرياء في دول الخليج وعدد قليل من الدول العربية والاسلامية مكن من تأسيس مثل هذه المصارف، وقد لا تختلف أعمالها عن أنظمة المصارف التقليدية، لكن هناك متعاملين يؤثرون هذا التكيف نظراً لمواقفهم المتحفظة بشأن الفوائد المصرفية، على الرغم من الفتاوى التي صدرت من جهات فقهية مرموقة مثل جامع الأزهر وعمدائه والتي تؤكد سلامة الفوائد.

التحديات الائتمانية

يواجه النظام المصرفي في دول الخليج تحديات مهمة في ظل استمرار أنظمة الاقتصاد الريعي في دول المنطقة، علما أن هناك تفاوتا في مستوى الهيمنة الحكومية على المرافق الاقتصادية. أهم هذه التحديات هو محدودية نطاق الائتمان حيث تقوم الحكومات بتوفير التمويل للعديد من الأنشطة بواسطة أدوات وآليات المالية العامة. نجد أن التسهيلات المصرفية تتركز في أنشطة الاستهلاك العائلي والشخصي والقطاع العقاري والتجارة والخدمات وإلى حد ما الصناعات التحويلية. لذا، سيؤدي اعتماد برامج التخصيص والتحولات الهيكلية إلى توسيع القاعدة الائتمانية، ويتيح مجالات أوسع وأنجع للتمويلات المصرفية. ويمكن الزعم بأن برامج التخصيص قد تؤدي إلى تمويل واسع النطاق لأهم قطاع في دول الخليج وهو قطاع النفط والغاز، حيث أن تطوير دور القطاع الخاص في أعمال المصب مثل أعمال التكرير أو المصافي والبتروكيماويات والنقل والتوزيع، من خلال شركات متخصصة لا بد أن تكون مجدية وتتمكن من نيل الثقة والجدارة الائتمانية وأن تتمول من النظام المصرفي الاعتيادي.

هناك أيضا مسألة جديرة بالتمعن من قبل مؤسسات العمل المصرفي في دول المنطقة وهي مسألة الحجم. فعدد كبير من المصارف والمؤسسات المصرفية تعد صغيرة الحجم قياساً لتطورات العمل المصرفي في العالم

هناك أيضا مسألة جديرة بالتمعن من قبل مؤسسات العمل المصرفي في دول المنطقة وهي مسألة الحجم. فعدد كبير من المصارف والمؤسسات المصرفية العاملة في هذه الدول تعد صغيرة الحجم قياساً لتطورات العمل المصرفي في العالم. معلوم أن العديد من المصارف الخليجية باتت تضاهي مصارف رئيسية في الولايات المتحدة وبريطانيا والصين واليابان من حيث حجمها وإدارتها والتزاماتها بأنظمة "بازل"  المتجددة، ومنها بنك الرياض والبنك الأهلي التجاري وبنك الراجحي وغيرها في السعودية أو بنك قطر الوطني أو بنك الكويت الوطني وبيت التمويل الكويتي وغيرها من مصارف في البحرين والإمارات وعمان. لكن يبقى هناك مصارف تعد صغيرة في مختلف هذه  الدول، وربما يتطلب الأمر قيام البنوك المركزية بدعم عمليات الاندماج والاقتناء وتطوير إمكانات مصارف كبيرة لمواجهة استحقاقات أعمال التمويل المصرفي في المستقبل.

للمزيد إقرأ: تحديات أمام "مجلس التعاون الخليجي" في 2024

لا شك أن إمكانات الائتمان والتمويل في المستقبل بعد اكتمال عمليات الإصلاح الاقتصادي البنيوي، تتطلب وجود مؤسسات مصرفية قادرة على تحمل المخاطر المحتملة. يضاف إلى ما سبق ذكره أن الاستقرار السياسي المأمول وتعزيز التنمية الاقتصادية في دول الجوار قد تمكن المصارف الخليجية من توسيع الرقعة الجغرافية لأعمالها في قطاعات واعدة في هذه الدول.

font change

مقالات ذات صلة