منى حاطوم تلتقي جياكومتي في معرض لندني

فنانة معاصرة خارج التصنيف التقليدي

REUTERS/Cynthia Karam
REUTERS/Cynthia Karam
زائرة تتأمل عمل منى حاطوم "مصباح" في إحدى صالات بيروت، 2010

منى حاطوم تلتقي جياكومتي في معرض لندني

"لقاءات" هو عنوان سلسلة من المعارض يقيمها "مركز باربيكان الفني" بلندن. مضمونها ينطلق من فكرة إقامة حوار وجودي مع الفنان السويسري ألبرتو جياكومتي (1901 ــ 1965).

جياكومتي إذن هو الطرف الثابت، أما الطرف الثاني فمتغير. بدأت السلسلة بمعرض للباكستانية الأميركية هومو بهابها، لتحل الفلسطينية البريطانية منى حاطوم محلها. في المعرضين كانت هناك منحوتات من جياكومتي، البعض منها لم يكن مشهورا لعدم أهميته. ذلك ما يسلط الضوء على هدف المعارض المتسلسلة.

فالأمر لا يتعلق باستعادة جياكومتي أو التعريف به باعتباره واحدا من أهم نحاتي القرن العشرين، فهو غني عن التعريف كما يقال، وأعماله لا تزال تثير الكثير من الأسئلة الوجودية التي تتعلق بتصريف الإنسان لعبثية وجوده انتقالا إلى مصيره.

المسألة التي تنطوي عليها هذه السلسلة من المعارض تتمحور حول كيفية معالجة فنانات معاصرات للأسئلة التي طرحها جياكومتي في زمانه والتي زادها زماننا صلابة وقوة بحيث صارت جزءا من حياتنا المعاصرة. تلك أسئلة تتعلق بالعزل والنبذ والإقصاء والوحدة والحرمان من الهوية.

لأن منى حاطوم تملك أسبابا مقنعة لانتمائها إلى الواقع فإنها لا تجد حرجا في التحايل عليه من أجل تأكيد سرديتها

طرح جياكومتي مفهوم الفرد الضائع عبر سردية بصرية لم يكن النحت في تاريخه اقترب منها. وهي سردية تستند إلى قوة حضور الكائن البشري شبحيا كأنه كائن حرم من هوامشه. هنا بالضبط تقع المقاربة التي اعتمدها منسقو هذه السلسلة من المعارض مدخلا للتعريف بفنانات عصرنا. منى حاطوم المولودة في بيروت عام 1952 وجدت نفسها عام 1975 مضطرة إلى البقاء في لندن بسبب نشوب الحرب الأهلية في لبنان. يومها تقرر مصيرها، وهو مصير لا يزال مشتبكا بأسئلة جياكومتي.

Wikimedia Commons
منى حاطوم

الطاعنة في خيال المواد الجاهزة

ليست منى حاطوم نحاتة مثل بهبها. يقع فنها خارج التصنيف التقليدي، فهي فنانة معاصرة. ليس لمرجعيتها علاقة بما نعرفه وما هو متداول من تاريخ الفن. يمكن القول إن حاطوم هي الأقرب من مارسيل دوشان، المؤسس الحقيقي للفنون المعاصرة. ذلك لأنها لا تزال تستند في منظورها الرمزي على استعمال المواد الجاهزة. الفن بالنسبة إليها فكرة. قيمة الفن تكمن في اختراع الفكرة، أما تنفيذ العمل الفني قإنه يتوزع بين طريقين: إما أن يتم من خلال عملية تصنيع يقوم بها حرفيون أو من خلال شراء شيء من أسواق المواد المستعملة.

MENAHEM KAHANA / AFP
زائر يتأمل عمل منى حاطوم "Grater Divide" في معرض No Place Like Home

في الحالين ليست لدى حاطوم مشكلة. لا تفرض عليها فكرة ما الحداثة طريقة بعينها لتنفيذ أعمالها. هي حرة في أن تنسب الأسرة والأقفاص والكراسي والمناضد إليها ما دامت هي التي حولتها إلى أعمال فنية. ألا يذكرنا ذلك بالكرسي الذي عرضه الأميركي جوزيف كويست عام 1965 من خلال هيئات ثلاث. الكرسي باعتباره كيانا فيزيائيا،، والكرسي من خلال صورته والكرسي الذي تحول إلى مادة إنشاء لغوي؟ لم تكن منى حاطوم في حاجة إلى كل ذلك التعقيد. لقد عرضت مشترياتها مباشرة. من بين الفنانين المعاصرين هي الأكثر قربا في مفهومها الى الفن الاجتماعي من جوزيف بويز الذي لا تزال بدلته الرمادية تعتبر عملا متحفيا. ليس هناك من ضرر في اعتبار المواد المستعملة أعمالا فنية. ولأن منى حاطوم تملك أسبابا مقنعة لانتمائها إلى الواقع فإنها لا تجد حرجا في التحايل عليه من أجل تأكيد سرديتها.

ISAAC LAWRENCE / AFP
عمل منى حاطوم "Kapan iki" (2012) في متحف M+ في هونغ كونغ، 2021

فلسطين الحاضرة بقوة

ما الذي يعني أن يكون الفنان المعاصر فلسطينيا؟ ذلك ما تجيب عنه حاطوم بطريقة مباشرة: "يعني أن تكون صاحب قضية إنسانية، ملغومة بالسياسة". ذلك ما لا يمكن أن ترضى به المتاحف العالمية دائما. غير أن فنانة ذات خبرة في شؤون المؤسسات الفنية الداعمة للفنون المعاصرة تعرف متى وكيف وأين تمرر مفرداتها ذات البعد الوطني المباشر. فهي حين اكتفت بخريطة فلسطين الخارجية في عمل صغير ضمه معرضها الحالي، فإنها كانت مطمئنة إلى أن "تيت مودرن" لن يعترض عليه وهو الذي أقام في وقت سابق أمسية للفنانة الفلسطينية الرائدة سامية حلبي بعد أن ألغي معرضها الاستعادي في إحدى الجامعات الأميركية بسبب موقفها من حرب الإبادة في غزة.

إذا كانت منى حطوم تقدم في المعارض العالمية باعتبارها فنانة بريطانية، فإنها في هذا المعرض الذي تقيمه في بريطانيا أرادت أن تؤكد أنها كانت ولا تزال وستبقى فلسطينية

يتكرر الأمر حين ترسم حاطوم خريطة فلسطين على الوسادة التي تعلو سريرا يشي بعزلته. هذا على مستوى مباشر. أما على مستوى غير مباشر، فالأقفاص التي تعددت أشكالها مثلها مثل الأسلاك الشائكة التي لجأت الفنانة إلى استعمالها في تغليف كراتها المتكررة بإيحاءات مختلفة، فإنها هي الأخرى يمكن تأويلها من خلال العودة إلى حالات الحصار والعزل والنبذ والقهر والإقصاء التي يعيشها الفلسطينيون داخل بلادهم. من المؤكد أن حاطوم تعرف جيدا أن أعمالها غير المباشرة هي الأقرب من خيال المتلقي العالمي وهي التي تقيم معارضها خارج العالم العربي، غير أنها اعتبرت معرضها المحمي بالمقاربة مع جياكومتي مناسبة لإطلاق صرخة تنهي من خلالها حالة من سوء الفهم ارتبطت بها، كونها موجودة بشكل دائم في قائمة الفنانين المعاصرين التي تعتمدها المتاحف العالمية.

 GERARD JULIEN / AFP
عمل للفنانة اللبنانية منى حاطوم بعنوان "Hot Spot" في متحف MuCEM بمرسيليا، فرنسا، 2020

فإذا كانت منى حطوم تقدم في المعارض العالمية باعتبارها فنانة بريطانية، فإنها في هذا المعرض الذي تقيمه في بريطانيا أرادت أن تؤكد أنها كانت ولا تزال وستبقى فلسطينية.

أسئلة وجودبة عابرة للأزمنة

ولكن أليس من من الضروري التساؤل عن مغزى اختيار منسقي هذا المعرض منى حاطوم لتقف أمام جياكومتي بكل ثقل فلسفته الوجودية التي عبر عنها من خلال النحت؟ ذلك سؤال هو أشبه بالمصيدة المعرفية. فجياكومتي هو ابن الحداثة الفنية بكل ما انطوت عليه من جماليات، كانت مؤلمة معه، أما منى حاطوم فإنها قادمة من عالم آخر. عالم لم يعد يعترف بالجمال مرجعا ولا هدفا. حاطوم هي ابنة الفكرة التي تنشئ أشكالا أو تستعير تلك الأشكال من الواقع.

 JACQUES DEMARTHON / AFP
عمل منى حاطوم "Bourj II" من سلسلة Bunker في متحف "الكونسييرجيري" بباريس، 2013

من وجهة نظري، فإن جياكومتي في هذه المحاولة قد أخليت أعماله من الطابع الجمالي وتم الاكتفاء بما انطوت عليه تلك الأعمال من أفكار. ذلك مريح بالنسبة للمنسقين غير أنه يعد خيانة للتاريخ. ولكن التاريخ نفسه تخلى عن مساره التقليدي المتوقع. فنانو اليوم قد ينظرون إلى جياكومتي باعتباره ماكينة أفكار. ذلك ليس صحيحا. ولكنها قناعة قد تؤسس لقراءة جديدة لفن جياكومتي.

يطرح فن منى حاطوم الأسئلة نفسها التي انطوى عليها فن جياكومتي، لكن في سياق معاصر. وهو سياق يحمل معه أدوات ومواد وتقنيات مختلفة. بمعنى أن ما كان جياكومتي يعبر عنه من خلال لغة النحت الصعبة صار الفنانون المعاصرون ينفذونه بالاستعانة بمواد جاهزة، ليس الوصول إليها صعبا. ذلك المعنى يبدو تبسيطيا ولكنه في حقيقته يفتح طريقا شاقة أمام الفنون البصرية المعاصرة تثبت من خلاله قدرتها على خلق وعي جديد لدى الإنسان بمشكلاته.

كل الأقفاص والأسيجة والأسرة التي صنعت حاطوم منها أعمالا فنية هي عبارة عن نسخ رمزية لأصل وجودي لا يزال قائما بقوة على أرض الواقع

لا تقف منى حاطوم خارج تلك المعادلة التي هي مزبج من المؤثرات الفنية والاجتماعية والسياسية إضافة إلى ما يخترقها من انفعالات نفسية. بل أن الفنانة، كونها فلسطينية الأصل، هي الأكثر استجابة وانشدادا إلى الأسئلة الوجودية التي انطوى عليها فن جياكومتي. كل الأقفاص والأسيجة والأسرة التي صنعت حاطوم منها أعمالا فنية هي عبارة عن نسخ رمزية لأصل وجودي لا يزال قائما بقوة على أرض الواقع. ذلك هو الأصل الذي تعيد الفنانة ترميمه استلهاما لحساسية المواد التي يتكون منها. ما تفعله حاطوم هو نوع من مقاومة ذلك الأصل المكتظ بأسئلة الوجود.    

font change

مقالات ذات صلة