اتجاهات الثقافة 2025... من حرب غزة إلى أخطار الذكاء الاصطناعي

مشهد تتشابك فيه سرديات الحرب والجوائز والتكنولوجيا

Sara Padovan
Sara Padovan

اتجاهات الثقافة 2025... من حرب غزة إلى أخطار الذكاء الاصطناعي

احتلت غزة في 2025 الخيال الثقافي العالمي وتحولت إلى مقياس فني وإنساني يعيد مساءلة معنى الفن وحدوده الأخلاقية، بينما انشغلت المهرجانات السينمائية والجوائز الأدبية والحركات الموسيقية بقضايا الهجرة والمنفى والذاكرة والعدالة والعائلة. من ناحية أخرى اقتحم الذكاء الاصطناعي الحياة اليومية بوصفه صديقا ومعالجا نفسيا وشريكا، وفرض نفسه على طريقة تداول اللغة وصناعات السينما والموسيقى والنشر، وأطلق نقاشات حادة حول الببغاء الاحتمالي والتجانس الأسلوبي وحدود الإنساني في عصر النماذج التوليدية.

وتبلورت في 2025 مناخات فكرية جديدة، من وثائق الفاتيكان المحذرة من "ظل الشر" الى محاولات الجنوب العالمي إعادة تعريف أخلاقيات التقنية، وصولا إلى مؤتمر MONDIACULT 2025 في برشلونة بإسبانيا، الذي طالب بإدراج الثقافة في قلب أهداف التنمية والتعامل معها بوصفها عنوانا رئيسا في مسار حماية الذاكرة والخيال والمعنى المشترك للحياة في كوكب يغرق في الحروب والأزمات الاقتصادية والبيئية.

غزة مركزا للخيال الثقافي

تصدرت الحرب في قطاع غزة واجهة الحدث الثقافي لعام 2025 وأجبرت المؤسسات الثقافية والمثقفين في المنطقة العربية والعالم على تحديد موقعهم الأخلاقي، انطلاقا مما أفرزه مشهدها التراجيدي المفتوح. لم تعد التصنيفات المتحايلة ممكنة بعد أن تكرس مفهوم الإبادة كوصف ما فوق سياسي لما يحدث في غزة.

سقطت تماما التوصيفات التي كانت تستحضر سردية حربية أو صراعية، فاتحة المجال أمام أهوال لم يشهد لها العالم مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية، وكان أخطر ما فيها هو السياق الثقافي الذي حرص على تغطيته وتبريره.

وبعد أن صارت الإبادة عنوان المشهد الغزاوي، انقسم العالم الثقافي معسكرين، يرفض أحدهما تبرير ما يحدث تحت أي ظرف ويحول فنه وشغله الثقافي إلى منصة إدانة ضد آلة القتل الإسرائيلية، وقسم آخر لا يجتهد وحسب في إيجاد التبريرات، بل يعمل على نسف سردية التضامن وتسفيهها. لكن الاتجاه التضامني توسع وانتشر وغطى على الاتجاهات المناقضة ووصل إلى قلب أهم المؤسسات الصانعة للثقافة في مجالات السينما والأدب والمسرح والكوميديا والموسيقى والغناء والفنون البصرية الأدائية.

سقطت تماما التوصيفات التي كانت تستحضر سردية حربية أو صراعية، فاتحة المجال أمام أهوال لم يشهد لها العالم مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية

في قلب هذا المشهد طرح "بينالي غزة" صيغة جديدة للفن يتبلور في المنفى وقد أطلقته مجموعة "المتحف المحظور" Forbidden Museum عام 2025، من خلال أجنحة تعرض أعمالا من غزة في نيويورك ولندن وأثينا وكوبنهاغن وإسطنبول وإدنبرة وبرلين. الفكرة التي تميز هذا المشروع، أنه ينطلق من غياب المكان ويحرص ليس على استبداله ولكن على خلق جغرافيا موازية يستحضرها الفن لمدينة تتعرض للمحو المقصود. يتم التعامل مع هذه الأعمال بوصفها سردا لحياة تنقص في كل لحظة، إذ أن معظم الرسوم تستمد مادتها من معالم الخراب وتصور البيوت المقصوفة والخراب وتغير طبيعة المكان والوجوه اليائسة.

AFP / Thomas Coex
زوار يتجوّلون في معرض الصور، "غزة بعيونهم"، في متحف تيسن-بورنيميسا في مدريد، 23 سبتمبر 2025

وشهد العام 2025 ظاهرة إحياء الملصقات السياسية الفلسطينية في معارض مثل "ملصقات من أجل غزة" Posters for Gaza التي أقيمت في لندن ورام الله.
وكان الملصق شكل في سبعينات وثمانينات القرن الماضي واجهة لشحن الثقافي والفني بالعناوين النضالية عبر وسيلة مباشرة ورمزية ومختصرة. إحياء هذا النموذج الآن يعود إلى تلاؤمه مع خطاب السرعة والمباشرة. الملصق يكون دائما مشحونا بمعانٍ رمزية شفافة وقادرة على مخاطبة المتلقي بشكل سريع ومكثف يمكنه مقارعة الوسائل التكنولوجية والتغريدات ووسائل التواصل الاجتماعي، كونه يعتمد على مزيج من عناصر الذاكرة العمومية والمألوف البصري والمحمول العاطفي والسيكولوجي.

 

مبادرات سينمائية وحملات مقاطعة

يسجل كذلك نشوء مجموعة من المبادرات السينمائية داخل غزة وخارجها، ففي الداخل انطلقت النسخة الأولى من مهرجان غزة الدولي لسينما النساء بمشاركة عشرات الأفلام من بلدان عدة، كما واصل مهرجان غزة لأفلام الأطفال نشاطه تحت شعار "نحب الحياة، غدا" حاملا خطابا يتوجه إلى المستقبل والأمل بالنجاة وتجاوز زمن الإبادة.
ومن خارج القطاع المحاصر، جاب فيلم "كان يا ما كان في غزة" Once Upon a Time in Gaza  للأخوين عرب وطرزان نصار المهرجانات الكبرى وتنقل بين كان وسراييفو وروما، ناقلا قراءته الخاصة لواقع غزة داخل رؤية تذهب أبعد من إدانة الاحتلال لتكشف التناقضات الحادة داخل المجتمع الفلسطيني.

وحول فيلم التونسية كوثر بن هنية "صوت هند رجب"، قصة الطفلة التي قتلها الجيش الإسرائيلي عن سابق تصميم، إلى عنوان عريض يسائل أخلاق العالم وقيمه. وبرز العرض المسرحي "طرق على السطح" A Knock on the Roof من كتابة وتمثيل خولة إبراهيم وإخراج أوليفر باتلر، بوصفه عملا نجح في نقل المشهد الغزاوي إلى خشبة المسرح، وقد عرضت في أدنبرة ونيويورك ولندن.
وتحولت أغنية "قاعة هند" Hind's Hall لمغني الراب الأميركي "إم" M إلى نشيد شبه رسمي يتكرر في اعتصامات الجامعات، ووظفت في فيديو كليب صوِّر في حرم جامعة كولومبيا بعد تغيير اسم أحد المباني رمزيا إلى "قاعة هند". كما ظهرت أغانٍ مثل "أغنية لغزة" A Song for Gaza  و"دموع على غزة"  Tears Over Gaza، تحرص على رفض ما يحدث في غزة.

وتؤكد حملات المقاطعة الفنية مثل حملة "لا موسيقى للإبادة" No Music For Genocide التي انطلقت في  سبتمبر/ أيلول، عمق التحول الذي تسببت به حرب غزة في المشهد الثقافي العالمي، إذ تدعو الحملة الفنانين إلى حجب كتالوغاتهم عن منصات البث في إسرائيل وتقييد الإتاحة الجغرافية، كما تعلن أن المقاطعة موقف من الإبادة في غزة ومن نظام "الأبارتهايد" ومن تواطؤ شركات البث. وقد تجاوز عدد الموقّعين خلال أسابيع قليلة الألف بين فنان وفرقة وشركة، وكان من بينهم نجوم كبار وفرق عالمية مثل "ماسيڤ أتاك" Massive Attack و"بيورك" Björk و"بارامور" Paramore و"لورد" Lorde و"ماي بلودي فالنتاين" My Bloody Valentine.

وتوسعت مبادرة "العاملون في السينما من أجل فلسطين التي ولدت في الولايات المتحدة الاميركية" Film Workers for Palestine لتشمل آلاف العاملين في القطاع، حيث انضم إليها مخرجون ونجوم مثل يورغوس لانثيموس وآفا دوفيرناي وخافيير بارديم وأوليفيا كولمان ومارك روفالو، معلنين مقاطعة المؤسسات والمهرجانات الإسرائيلية المتورطة في تجميل صورة المجزرة المفتوحة في غزة.

AFP / Tiziana Fabi
امرأة تضع ملصقا كتب عليه "غزة = إبادة جماعية، قاطعوا إسرائيل"، قبيل افتتاح الدورة الـ82 من مهرجان البندقية السينمائي في فينيسيا ليدو، أغسطس 2025

مهرجانات عالمية

أفرز العام 2025 مزاجا عاما يميل إلى مناقشة قضايا الجسد والذاكرة والعدالة وتجلى هذا النزوع في المهرجانات السينمائية الكبرى وانعكس كذلك في المهرجانات والفعاليات السينمائية التي شهدتها المنطقة العربية من السعودية ومصر إلى بيروت.
وقد مثّل منح حفل الأوسكار السابع والتسعين جائزته لفيلم "أنورا" للمخرج شون بيكر احتفاء بسينما المهمشين، إذ يروي الفيلم قصة اصطدام راقصة مع عالم الأوليغارشية وكيف يتفكك حلمها بالانضمام إلى هذه الطبقة بعد علاقتها بابن أحد أقطابها المعروفين.

أفرز العام 2025 مزاجا عاما يميل إلى مناقشة قضايا الجسد والذاكرة والعدالة وتجلى هذا النزوع في المهرجانات السينمائية الكبرى

ومنح "مهرجان كان السينمائي" سعفته الذهبية لعام 2025 للمخرج الإيراني جعفر بناهي عن فيلمه الجدلي "مجرد حادث" الذي يطرح سؤالا حول موقع التعذيب في إنتاج الواقع السياسي والاجتماعي والنفسي وهل يحول ضحاياه إلى سيكوباتيين منتقمين لا يعرفون الرحمة والتعاطف.
ونال جيم جارموش جائزة الأسد الذهبي من مهرجان البندقية السينمائي عن فيلمه "أب وأم وأخت وأخ" Father Mother Sister Brother، وهو عمل من ثلاثة أجزاء يتناول العلاقات المأزومة بين الآباء والأبناء الذين بلغوا سن الرشد ويقدم العائلة بشكل كوميدي على أنها مصدر تشكل الأحكام والحساسيات.

وعكست المهرجانات العربية هذا المزاج العالمي، فقد توج مهرجان القاهرة السينمائي الدولي دورته الأخيرة فيلم "اليعسوب" Dragonfly بالهرم الذهبي للمخرج أندرو ويليامز، وهو عمل تقوده ممثلتان (أندريا ريزبورو وبريندا بليثن) ويسرد حكاية عن العزلة وإعادة إنتاج الحياة بعد أزمة شخصية، كما يعالج علاقة الماضي بالحاضر.

وحرص مهرجان البحر الأحمر في جدة في دورته لعام 2025 على إبراز أفلام تتميّز بالجرأة والابتكار، من بينها "رائحة أبي" My Father's Scent لمحمد سيّام، و"مسألة حياة أو موت" A Matter of Life and Death"  لأنس با تحف، و"هجرة" لشهد أمين. تشترك هذه الأعمال في الانشغال بأسئلة العائلة والجسد والتحول الداخلي، بينما يذهب "هجرة" بشكل خاص إلى ثيمات الرحلة والهجرة الروحية والذاكرة في مواجهة بنى اجتماعية محكمة.

واحتضنت بيروت، على الرغم من الظروف القاسية وأجواء الحرب والاغتيالات وتردي الوضع الاقتصادي، مجموعة من النشاطات السينمائية البارزة:
مهرجان بيروت الدولي للأفلام القصيرة  Beirut Shorts International Film Festival، المؤهّل للأوسكار، قدم في دورته التاسعة عشرة صورة عن بيروت تستعيد الألوان ببطء. وعرّف المهرجان نفسه كـ"طريق مختصر إلى الأوسكار"  Shortcut to the Oscars، أي بوابة من بيروت إلى العالم عبر الفيلم القصير.

وتبنى مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة (BWFF) في دورته لعام 2025 ثيمة "نساء من اجل القيادة"  Women for Leadership، تجمع بين البعد الشعري والسياسي عبر ربط سرديات المرأة بأسئلة السلطة والتحوّل والقدرة على الفعل. وقدّم خطابه الافتتاحي مقاربة تُبرز موقع النساء في زمن الحرب والتهجير والانهيار الاقتصادي، مظهرا إصرارهن على توظيف إمكاناتهن لتجاوز واقع الالم وصوغ مسارات جديدة للحياة.

ورفع مهرجان بيروت لأفلام الفن Beirut Art Film Festival (BAFF) في دورته الحادية عشرة لعام 2025 شعار "مهرجان من أجل الانسانية"  Festival for Humanity، وقدّم، إلى جانب برامجه المركزية في بيروت، مبادرة "متحدون في التراث" United in Heritage، وهي سلسلة عروض لأفلام عن الفن والتراث تمتد على مدى ستة اشهر في مراكز ثقافية موزعة بين بيروت والبقاع والجنوب والشمال.

الجوائز الأدبية والإنتاج الغنائي

أدبيا، يمكن قراءة مزاج 2025 من خلال الجوائز الكبرى والكتب التي أثارت نقاشا واسعا.
ذهبت نوبل الآداب إلى الكاتب المجري لازلو كراسنهوركاي، الذي رصدت رواياته على مدى عقود عالما يحاذي الانهيار والكارثة، إذ تصور رواياته التي استلهم منها المخرج الشهير بيلا تار فيلمه "تانغو الشيطان" الذي يحمل عنوان رواية الكاتب الفائز، مشهديات كابوسية من القرى المهملة والمدن المفتقدة للحياة والشخصيات التي تتأرجح بين الجنون والأوهام الخلاصية.

عربيا فازت رواية "دعاء القلق" للمصري محمد سمير ندا بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر العربية). تدور أحداثها في قرية معزولة عام 1977، في جو تختلط فيه السياسة بالفانتازيا والأسطورة، ويتحول الدعاء نفسه إلى حامل لبنية قلق وجودي في مواجهة القمع. تفتح الرواية أرشيفا موازيا للتاريخ الرسمي، وتدرج الخوف الفردي في آليات عمل تحليل السلطة العسكرية.

وتابع الكاتب اللبناني الأميركي ربيع علم الدين مشروعه الأدبي من خلال روايات تتناول الكوارث بأسلوب ساخر وتحلل علاقات الجسد والحرب والمنفى. روايته "القصة الحقيقية الحقيقية لرجا الساذج وأمه" التي ترصد كيف تنظر الأجيال المختلفة إلى العالم، فازت بجائزة الكتاب الوطنية الأميركية لعام 2025.

ومنح الكاتب المجري-البريطاني ديفيد زالاي جائزة البوكر العالمية لعام 2025 عن روايته "جسد" التي تقارب موضوع الجسد كتجربة مادية مباشرة تشكل جوهر الوجود الإنساني وتحمل معالم الشخصية وترسم ملامح البنية النفسية والعاطفية بشكل كامل وحاسم.

شهد 2025 توظيفات جديدة للذكاء الاصطناعي أخرجته من كونه مجرد مساعد على إنتاج النصوص والأبحاث والصور ليتحول إلى مشارك في إنتاج الحياة اليومية

وفي مجال الموسيقى برز ألبوم باد باني Bad Bunny الجديد الذي صدر في بورتوريكو، ويمزج التراب والريغيتون ويطرح مواضيع الشهرة والصورة. وتقدم ألبوم روزاليا الذي صدر في إسبانياROSALÍA – LUX بتركيبة تجمع الفلامنكو المعاصر بالبوب الإلكتروني، ونص يتحدث عن الإيمان والجسد، كأحد أبرز ألبومات العام.

ورصدت الصحافة الثقافية العربية، ظهور موجة جديدة من الأغنية العربية تجمع بين التراب والمزاج الشعبي. وحققت أغنية "الحربين" للمغنية السورية بيسان إسماعيل، التي تتحدث عن الندم والتأمل، ملايين المشاهدات خلال أسابيع، واستخدمت كخلفية للمقاطع القصيرة على "تيك توك" و"إنستاغرام."
وشكل المغني اللبناني فضل شاكر ظاهرة بالأغاني التي أصدرها من داخل مخيم عين الحلوة الذي كان يتوارى فيه، إذ حققت أغانيه مشاهدات قياسية وباتت من أبرز الأعمال الغنائية التي احتلت الصدارة في 2025 مع ألبوم عمرو دياب "ابتدينا".

الذكاء الاصطناعي وتأثيره على اللغة والنتاج الثقافي

شهد العام 2025 توظيفات جديدة للذكاء الاصطناعي أخرجته من كونه مجرد مساعد على إنتاج النصوص والأبحاث والصور ليتحول إلى مشارك في إنتاج الحياة اليومية عبر أدوار الصديق والمعالج النفسي والمستشار الاجتماعي.

أصدرت منظمة "كومون سينس ميديا" Common Sense Media الأميركية تقريرا حول استخدام المراهقين لأصدقاء مولّدين بالذكاء الاصطناعي. ويصف التقرير نشوء شبكة عريضة من التطبيقات التي تقدّم نفسها كـ"أصدقاء رقميين" يمكن التحدث معهم حول المشاعر والعلاقات، والتنفيس عن الغضب والوحدة. وقد اختبر  قسم كبير من المراهقين في عينة الدراسة مثل هذه الرفقة، وأكد بعضهم أن التواصل مع الصديق الرقمي أسلس من التواصل مع الأصدقاء أو الأهل.

وبينت تحليلات أخرى صادرة عن مراكز بحثية مثل "مؤسسة بروكينغز" الأميركية  أن الاستعمال الأساس لهذه النماذج في بعض المجتمعات لم يعد مقتصرا على المساعدة في الواجبات المدرسية أو العمل، بل صار يستخدم للتعويض عن نقص العلاقات البشرية، إذ بات الناس يطلبون من الروبوت النصيحة في القرارات العاطفية ويعترفون له بما لا يمكنهم البوح به لأحد.
وقد سجلت تقارير وتحقيقات صحافية وقائع مرعبة عن عائلات ترفع دعاوى قضائية على شركات تقدم خدمات "الرفيق الرقمي الذكي" بعد انتحار أبنائها، متهمة هذه النماذج بإعطاء نصائح أو ردود ساهمت في دفع مراهقين إلى حافة الانهيار وقدمت لهم الطرق الأسهل لتنفيذ الانتحار.
وكان رد فعل الشركات عبر حظر القصر والتشديد على فلترة المحتوى، لكن النقاش يتجاوز المعطيات القانونية إلى السؤال حول معنى استبدال التواصل البشري بالتواصل مع حالة رقمية معدة للاستجابة للرغبات الدفينة وإرضاء المستهلك بأي شكل، وكيف سيشكل هذا النوع من التواصل غير الواقعي وغير الطبيعي، النموذج الذي يجب أن تُنسج على أساسه العلاقات البشرية، وكذلك كيف يمكن تصور هذا النمط من العلاقة على الكيفية التي ينظر فيها الناس إلى ذاتهم وإلى الوجود، وكيف سيتم تمثل هذا التأثير في النتاج الثقافي بكل أنواعه في الأدب والسينما في قادم الأيام.

اللغة تحت ضغط "الببغاء الاحتمالي"

منذ أن قدّم عدد من الباحثين عام 2021 مصطلح "الببغاء الاحتمالي" لوصف نماذج لغوية كبيرة يمكنها تقليد الكلام البشري بشكل احتمالي من دون فهم المعنى، كان هناك تحذير من أخطار استخدام مثل هذه النماذج لانها تعزز نشر المعلومات المضللة وتدعم التحيزات التي تنسجم مع البنية المعلوماتية المدمجة في بياناتها. هذه النماذج لا "تفهم" العالم لكنها تتوقع الكلمة التالية قياسا على كم هائل من النصوص السابقة، مما يعني أنها تميل إلى تضخيم الرؤى السائدة وإعادة إنتاج ما تتضمنه البيانات التي تربّت عليها من تحيزات.

وتقارن دراسات حديثة بين نصوص طلاب الجامعات والنصوص التي يكتبها الذكاء الاصطناعي في الموضوعات نفسها، وتخلص في أكثر من حالة إلى ملاحظات متقاربة:
نصوص النماذج أكثر رسمية وأقرب إلى اللغة الأكاديمية المحايدة، بينما نصوص البشر أكثر حميمية وتنطوي على انعطافات مفاجئة وتجريب في الصور والاستعارات. وتلفت أبحاث أخرى إلى ظاهرة التجانس الأسلوبي: عندما يعتمد الباحثون والطلاب والكتّاب على النماذج في توليد الأفكار أو في تحسين الأسلوب، تتقارب النصوص في بنائها ونبرتها ومفرداتها إلى حد يمكن قياسه.

الفصحى الملساء واللهجات المقموعة

في اللغة العربية، يظهر تأثير الذكاء الاصطناعي بطريقة أكثر تعقيدا، إذ تساعد أدوات الكتابة التوليدية في رفع كمية المحتوى العربي على الشبكة، ولكن هذه النماذج لا تزال ضعيفة أمام اللهجات والتعبيرات المحلية، وأمام الفروقات الثقافية الدقيقة.

يظهر تأثير الذكاء الاصطناعي بطريقة أكثر تعقيدا، إذ تساعد أدوات الكتابة التوليدية في رفع كمية المحتوى العربي على الشبكة، ولكن هذه النماذج لا تزال ضعيفة أمام اللهجات والتعبيرات المحلية

بناء على ذلك، تميل النصوص التي تُنتج أو تُحرّر عبر الذكاء الاصطناعي بالعربية إلى نوع من الفصحى القياسية الملساء، أي لغة صحيحة من حيث القواعد لكنها لا تعبّر عن هوية المكان أو الكاتب، بمعنى أن النصوص تتسم بعمومية تجعلها تبدو بلا مرجعية أو شخصية بشكل يجعل الكاتب يختفي لصالح التنظيم الآلي للغة الذي يتبع نسقا منتظما ومدروسا بلا مغامرات أو تجريب.

الصناعات الثقافية وخطر التماثل

سينمائيا، لم يعد سرا أن الاستوديوهات تستخدم الأدوات التوليدية في كتابة المسودات الأولى، وفي التصوّر المسبق للمشاهد (pre-visualization)، وفي المونتاج ومعالجة الصوت وتقليل أخطار مشاهد المجازفة عبر "البدائل المولدة رقميا للممثلين". نقابات مثل "نقابة ممثلي الشاشة" SAG-AFTRA تدخل في مفاوضات طويلة مع شركات الإنتاج وألعاب الفيديو لضبط استخدام نسخ وجوه وأصوات الممثلين.

موسيقيا، تعقد شركات إنتاج كبرى اتفاقيات ترخيص مع منصات موسيقى توليدية تتيح للمستخدمين إعادة مزج أعمال فنّانين حقيقيين داخل أنظمة ذكاء اصطناعي مرخّص لها.
الفكرة قد تبدو منسجمة مع ديمقراطية الإبداع، لكنها تطرح سؤال التوليف المبني على التجارب السابقة والمبني على الاختيار بناء على النجاح والشهرة والذيوع.

ألن يؤدي ذلك إلى إعادة إنتاج لا متناهية لنماذج شائعة بطرق مختلفة، فما يبدو كثافة إنتاجية ليس بناء على هذا المنطق سوى قضاء على الخيال لصالح النموذج الواحد المعاد تكثيره إلى ما لا نهاية.

وفي موازاة تفشي توظيف الذكاء الاصطناعي في إنتاج الأعمال الفنية، برزت في 2025 ظاهرة مضادة تحتفي بنتاج خال تماما من استخدامات الذكاء الاصطناعي، وحرص بعض الفنانين على الإعلان أن أعمالهم كُتبت أو رُسمت من دون أي مساعدة من أي نموذج ذكاء اصطناعي، وباتوا يصدرون أعمالهم بعبارات من نوع "مصنوع يدويا" Handmade و"خال من الذكاء الاصطناعي  AI-freeكجزء من هوية العمل وتسويقه.
في هذا المعنى، يفتح الذكاء الاصطناعي مجالا جديدا لتحديد ما هو إنساني، إذ بات لا يعني التناقض مع الآلي وحسب، بل الرغبة في ترك مجال للخطأ والبطء والأسلوب الذي يحتوي على انعطافات ومفاجآت ويحمل سمات الذات التي أنتجته وهويتها.

المناخات الفكرية في 2025

أصدر الفاتيكان مطلع العام وثيقة مطوّلة عن الذكاء الاصطناعي تصفه بأنه "ظل الشر"، وتحذر من مغبة استخدامه في التضليل والتزييف العميق وتدعو إلى رقابة حكومية صارمة وإلى نقاش عام حول الحدود الأخلاقية لهذه الأدوات. وفي الوقت نفسه، انتشرت مشاريع فكرية تحاول تحرير نظام الذكاء الاصطناعي من مركزية الغرب.
ويجمع كتاب "الدليل إلى الفلسفات العالمية حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي" مقاربات من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ويسأل: ماذا لو صيغت المبادئ الحاكمة للتقنية انطلاقا من مفاهيم مثل "أوبونتو" ubuntu المبني على مبدأ "أنا بخير لأنك بخير" و"أنا موجود لأنك موجود"، أو بعض صيغ الفكر الهندي التي ترى العالم عائلة واحدة، أو التصورات الكونفوشية عن الفضيلة والإنسان المثالي الذي يحيا وفق أعلى المعايير الأخلاقية.

الحقيقة في زمن التزييف: هرتزوغ والحقيقة النشوانة

في كتابه "مستقبل الحقيقة"  The Future of Truth، ينبّه المخرج الألماني فيرنر هرتسوغ إلى خطر تجاهل الحقائق التي "لا تظهر في الإحصاءات". يرى أن هناك نوعا من الحقيقة لا يقاس بالدقة الوثائقية، بل بالقدرة على لمس جوهر تجربة ما. كان سمّاها سابقا "الحقيقة النشوانة"، وتعني اللحظة التي يتجاوز فيها الفيلم أو النص الوقائع الجامدة ليصوغ معنى أعمق عن الحرب أو العزلة أو الفقر.
تواجه الفكرة اليوم تحديا كبيرا، ففي عالم يسهل فيه اختلاق صورة أو تسجيل كامل من العدم، يصبح الدفاع عن "الحقيقة النشوانة" أكثر تعقيدا.

"مونديا كالت 2025": الثقافة على جدول أعمال الكوكب

انطلاقا من هذا الواقع، جاء "المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية" MONDIACULT 2025 في برشلونة كترجمة سياسية صريحة لهذه المناخات. أكثر من 120 وزيرا للثقافة وممثلون عن 163 دولة اجتمعوا في قاعة واحدة لمناقشة سؤال بسيط في صيغته، معقد في تبعاته: أين نضع الثقافة في معادلة التنمية المستدامة؟
التقرير الذي صدر بالتزامن مع المؤتمر حمل عنوانا معبّرا: "الثقافة: هدف التنمية المفقود"، يُظهر أن الغالبية الساحقة من الدول باتت تذكر الثقافة في وثائقها التنموية، لكن العاملين في المجال الثقافي يظلون الأقل حماية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ويقود ذلك إلى استنتاج مخيف يعلن أنه إذا كانت السياسات العامة للدول تنظر إلى الثقافة كرفاهية يمكن الاستغناء عنها لحظة الأزمات، فإن ذلك يهدد بتدمير العناصر التي تشكل الروابط الداخلية لأي مجتمع، أي المعنى والذاكرة والنمط الخاص من الخيال.

أكثر من 120 وزيرا للثقافة وممثلون عن 163 دولة اجتمعوا في قاعة واحدة لمناقشة سؤال بسيط في صيغته، معقّد في تبعاته: أين نضع الثقافة في معادلة التنمية المستدامة؟

تكرر الحديث في المؤتمر عن نقاط ثلاث: حماية الفنانين وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، دمج الثقافة في سياسات المناخ والاستجابة للكوارث بوصفها عامل صمود ومخيّلا بديلا، والتعامل مع الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة يمكن تسخيرها لحماية التراث وتعزيز الوصول، بالتلازم مع إطلاق مسار ضبط تشريعي وأخلاقي.

وطرح المؤتمر في الختام فكرة الاعتراف بالثقافة كهدف مستقل ضمن أجندة ما بعد 2030، أي أن تصبح السياسة الثقافية جزءا أساسيا من جدول أعمال الكوكب، لا ملحقا اختياريا. بهذه الخطوة، نقل المؤتمر أسئلة الثقافة وهمومها ومواضيعها التي تطرح عناوين أخلاقيات التقنية، معنى التقدم، العدالة البيئية والأصوات الاحتجاجية التي رفعتها غزة وبيروت والهند وأميركا اللاتينية، إلى مستوى النصوص الرسمية التي يتوقع أن تنتج قوانين وتشريعات وسياسات ثقافية صلبة.

font change